أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
إن ما يُسمَّى (الحشو) في الأسلوب الإنشائي ذو وظيفة أدبيَّة، يُقدِّرها البلغاء والنقَّاد، وليس كلّ حشوٍ معيبًا.(1) ولقد أجاب المفسِّرون عن آية الإسراء- التي زعم مؤلِّف «العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود» أن «أَسْرَى» فيها بمعنى «ذهب إلى السَّراة»؛ محتجًّا بأن النصّ القرآني قال: «أَسْرَى ليلًا»، ولو كان «أَسْرَى» بمعنى السَّير ليلًا لكانت كلمة «ليلًا» في الآية زائدةً وحشوًا(2)- أجاب المفسِّرون عن ذاك بما لا مزيد عليه. وممَّا ذكروه قول (الزمخشري)(3): «فإنْ قلتَ: الإسراء لا يكون إلّا بليل، فما معنى: ذِكر الليل؟ قلتُ: أراد بقوله «ليلًا» بلفظ التنكير: تقليل مدّة الإسراء، وأنه أُسري به في بعض الليل من مَكَّة إلى الشام، مسيرة أربعين ليلةً؛ وذلك أن التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضيَّة؛ ويشهد لذلك قراءة عبدالله وحذيفة: «من الليل»، أي بعض الليل...». وعقّب (عبدالقادر البغدادي)(4) على هذا بقوله: «الصواب أن تنكيره لدفع توهّم أن الإسراء كان في ليالٍ، وإلى هذا جَنَحَ عَلم الدِّين السخاوي في تفسيره(5)؛ فقال: وإنما قال ليلًا والإسراء لا يكون إلّا بالليل لأن المُدّة التي أُسري به فيها لا تُقطع في أقل من أربعين يومًا، فقُطِعَتْ به في ليلٍ واحد، فكان المعنى «سبحان الذي أسرى بعبده» في ليلٍ واحدٍ من كذا إلى كذا، وهو موضع التعجّب، وإنما عَدَل عن ليلةٍ إلى ليلٍ لأنهم إذا قالوا أسرى ليلةً كان ذلك في الغالب لاستيعاب الليلة بالسُّرى، فقيل ليلًا أي في ليل، انتهى؛ وهذا توجيهٌ حَسَنٌ لا كُلْفَةَ فيه.»
ذُكِر الليل، إذن- فوق كونه سائغًا في كلام العرب كما رأينا في مقالاتنا السابقة- لا لأن «أسرى» في الآية لا تعني السير ليلًا، وإنما لأن موضع التعجب والإعجاز يتمثَّل في أن أُسري به من (مَكَّة) إلى (الشام) في جزء من ليلةٍ واحدة. أمّا الإسراء من مَكَّة إلى (الطائف) أو إلى (السَّراة)، فليس بذلك الحدث الإعجازي، حتى بمقاييس ذلك الزمان، ولا خارقة فيه، ولا نُبوَّة، تقتضيان أن يُسرَى به إليه، وأن يُتعجَّب من ذلك بـ»سُبحان الذي أسرَى...!»؛ لأن أيّ صعلوكٍ من العرب كان بإمكانه أن يسري ليلًا- بالروح وبالجسد وبغيرهما ممَّا شاء- من المسجد الحرام إلى السَّراة، وربما إلى ما هو أبعد من السَّراة! فما الذي حمل المشركين على أن يكذِّبوا (محمّدًا) في ذلك الحدث الاعتيادي، أو يُنكروه عليه أو يُفتَنوا بإنبائه عنه؟! بل ما الذي جعل كثيرًا ممَّن كانوا أسلموا يرتدُّون صدمةً لخبر الإسراء، مع أنه مشوار قريب كان يمكن أن يقع من أيّ بشر؟! فقال أكثر الناس: «هذا، والله، الإمْر البَيِّن، والله إن العِير لتطرد شهرًا من (مَكَّة) إلى (الشام) مُدْبرةً، وشهرًا مُقْبلة، أ فيذهب ذلك محمَّدٌ في ليلةٍ واحدة، ويَرجع إلى مَكَّة؟!» حتى (أبو بكر الصدِّيق) لم يصدِّق الخبر أوَّل سماعه إيَّاه، بل قال: «إنكم تكذبون عليه»، ثم قال: «لئن كان قاله، لقد صَدَق». ولكي يتمّ تصديقه الرسول طلب إليه أن يصف له بيت المَقْدِس.(6) وهو ما استحقَّ عليه أبو بكرٍ لقب «الصدِّيق». وما الذي كان يستحقَّ عليه لقبه بتصديق مثل ذلك الإسراء المألوف من مكَّة إلى السَّراة؟!
والمؤلِّف يُفضي من هذا المهيع إلى أن (أورشليم) مغارة في (غامد)! وأن بيت المَقْدِس في غامد! وأن غامدًا، إذن، هي أرض الإسراء والمعراج! وعليه فإن بيت المَقْدِس في فلسطين ليس ببيت مقدَّسٍ على الإطلاق، لا لليهود، ولا للمسيحيين، ولا للمسلمين، وكلّ ذلك التاريخ من تقديس بيت المَقْدِس في فلسطين لا أصل له، وقد ضلّ العالمون جميعًا، المتقدِّمون منهم والمتأخِّرون، وعَمُوا، بما فيهم الأنبياء، حتى فَقَّح عيونهم (أحمد داوود)! والصراع التاريخي حول تلك الأرض المقدَّسة للأديان الثلاثة، قديمُهُ والحديث، لا أصل له؛ فلا القُدْس قُدْسٌ ولا الديار ديار! فيا لهذا من اكتشافٍ ثوريٍّ، لكنه جاء متأخِّرًا جدًّا!
وكما سبق أن رأينا (الصليبي) يزعم بتأييد التراث العربي لمزاعمه، ثم إذا فحصنا ما زعم وقفنا على الانتقاء والاجتزاء والتعويل على الأساطير والخرافات، نجد مثل ذلك لدى (داوود). فالمنهاج هو المنهاج، والسبيل هي السبيل، سوى أن الأوّل أراد توطين التاريخ الإسرائيلي في عسير، والآخر أراد توطين التاريخ الإسرائيلي في سراة غامد.
** ** **
(1) انظر مثلًا: كوهن، جان، (1986)، بنية اللغة الشِّعريَّة، ترجمة: محمَّد الولي ومحمَّد العمري (الدار البيضاء: دار توبقال)، 131-000.
(2) انظر: داوود، أحمد، (1991)، العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود، (دمشق: دار ال مستقبل)، 251.
(3) (1998)، الكشّاف عن غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وُجوه التأويل، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمّد معوّض وفتحي عبدالرحمن أحمد حجازي (الرِّياض: مكتبة العبيكان)، 3: 491- 492.
(4) (1980)، حاشية على شرح بانت سعاد لابن هشام، تحقيق: نظيف محرَّم خواجة (ألمانيا: فرانتس شتاينر بفيسبادن)، 1: 612.
(5) لم يَرِد هذا الذي نَسَبَه إلى السخاوي في تفسيره السورة! (انظر: السخاوي، (2009)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: موسى علي موسى مسعود وأشرف محمّد عبدالله القصّاص (القاهرة: دار النشر للجامعات)، 1: 470- 000).
(6) انظر: ابن هشام، (1955)، السيرة النبويَّة، تحقيق: مصطفى السقا؛ إبراهيم الإبياري؛ عبدالحفيظ شلبي (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي)، 1: 398- 399.
* *
(*) تنويه: في عنوان قصيدتي المنشورة في «ثقافيّة» السبت 9 أبريل 2016، نُشر العنوان هكذا: «Blarne Stone»، والصواب: «Blarney Stone».