أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
إن القول بأن وصف «بيت المَقْدِس» بهذا الوصف لم يُعرف لدى المسلمين إلّا في فترة متأخِّرة من العصر الأموي- وهو ما ذهب إليه بعض المعاصرين التماسًا لنفي القداسة الإسلاميَّة عن المسجد الأقصى- يتنافى بجلاء مع حقائق التاريخ ومأثورات اللغة والأدب. من ذلك أننا حين نعود إلى أدب العرب في صدر الإسلام، ماذا نجد؟ نجد، مثلًا، (أبا بكر الصديق)(1) يقول:
عَجِبتُ لِما أَسرى الإِلهُ بِعَبدِهِ
مِنَ البَيتِ لَيلًا نَحوَ (بَيتٍ مُقَدَّسِ)
كِلا طَلَقَيهِ كانَ مَنَّ بِبَعضِها
ذَهابـًا وَإِقبالًا وما مِن مُعَرَّسِ
وحين نعود إلى أدب العرب في العصر الأموي، ماذا نجد؟ نجد قول (نصر بن سيار، 46- 131هـ= 666- 748م)(2):
وبَيتُ خليفةِ الرحمنِ فينا
وبَيتاهُ المُقَدَّسُ والحـَرامُ
وحين نعود إلى التراث الإسلاميّ المبكّر، ماذا نجد؟ نجد أنها تَرِد إضافة بيت (إيليا) إلى «المَقْدِس» في ما لا يُحصَى من أُمَّهات الروايات والكتابات والكُتب الأُولَى من التراث الإسلامي. منها كتاب «التيجان في ملوك حِمْيَر»، (لوَهْب بن مُنَبِّه، -114هـ= 732م)، في كلامه حول (سليمان بن داوود، عليهما السلام).(3) بل في طليعة تلك الروايات الأحاديث النبويَّة الصحيحة بأسانيدها. منها ما ورد في «باب الإسراء» و»باب المِعراج» من «صحيح البُخاري»، (-256هـ). ففي الأوّل نقرأ: «حدَّثنا يحيى بن بُكير، حدَّثنا الليث، عن عُقيل عن ابن شهاب، حدَّثني أبو سلمة ابن عبدالرحمن، سمعتُ جابر بن عبدالله، رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول: «لمَّا كذَّبتْني قريش، قُمتُ في الحِجْر، فجلا الله لي (بيت المَقْدِس)، فطفقتُ أُخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه.» (4) ولم يقل: «بيت المَقْدِس في بلاد غامد»! لعلّ ذلك سقطَ من الرواية سهوًا، أو عمدًا عن مؤامرة استشراقيَّة صهيونيَّة! وما كان في حاجة إلى أن يجلوه الله له، لو كان في (بلاد غامد)، بل ما كان المشركون في حاجة إلى أن يختبروه بشأن الإسراء، وهو إنما أُسري به إلى مكانٍ إلى جوارهم.كما جاء في «باب المعراج» من «صحيح البخاري»(5): «حدَّثنا الحُميدي، حدَّثنا سُفَين، حدَّثنا عمرو عن عكرمة عن ابن عبّاس، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ»، قال هي رؤيا عينٍ أُرِيَها رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، ليلة أُسرِي به إلى (بيت المَقْدِس).» وهنا كذلك لم يقل عن بيت المَقْدِس «في بلاد غامد»، والراجح بهذا، أن ذلك لم يسقط سهوًا من الرواية ولا عمدًا، لكن الناس كانوا يعلمون تمامًا أين يقع بيت المَقْدِس، وإلى أين أُسري بالرسول، وما كان يخطر في بال بشر أن الأمر سوف يستدعي التحديد في يومٍ من الأيّام، وأن أدعياء تاريخٍ سوف يظهرون بعد 1400سنة فيتساءلون- للوثات سياسيَّة سخيفة-: تُرَى أين يقع بيت المَقْدِس؟ وأين يقع المسجد الأقصَى؟ أ في (النماص)، كما زعم (كمال الصليبي)؟ أم في (بلاد غامد)، كما زعم (أحمد داوود)؟ أم في (الجِعِرَّانة)، كما زعم آخرون متأخِّرون؟ إذ حين أعيَى العربَ تحريرُ الأقصَى، إنْ كان ذلك في نيّاتهم أصلًا، تفتّقت عبقريَّات مؤرِّخيهم النحارير عن ضرورة تهجير الاسم ولمسمَّى إلى بلاد أخرى، أو حتى إلى «السماء».. وكفى الله المؤمنين القتال!
كما يرِد تحديد مكان الإسراء بـ»بيت المَقْدِس» في «السيرة النبويَّة»، لـ(ابن إسحاق، -151هـ). وهنا يبدو أن ابن إسحاق، وهو أوَّل مؤرِّخي الإسلام، قد تنبَّأ بضرورة تحديد المكان؛ لأن مؤرِّخين ممخرقين سيأتون بعد مئات السنين فيثيرون الغبار حول تحديد المكان. فأصرّ على ذِكر «بيت المَقْدِس»، وأنه يقع فيه «المسجد الأقصَى»، وأنهما يقعان معًا في مدينة «إيليا» بـ(فلسطين).(6) ولم يبق، إذن، إلَّا أن يرسم لنابتة مؤرِّخينا الخريطة ويحدِّد لهم عليها الموقع. وهو لو فعل، لما اهتدوا أيضًا؛ لأن التعصّب عمًى، والمكابرة داءٌ عياء، والغَرَض مَرَض. فذكرَ بالنصّ: أن «رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، أُسري به من المسجد الحرام إلى (المسجد الأقصَى)، وهو (بيت المَقْدِس)، من (إيليا).»(7) هذا إلى جانب إشارته ثلاث مرات أخرى إلى «بيت المَقْدِس»، منها اثنتان في ذِكْر أن الصلوات الخمس فُرضت في «بيت المَقْدِس»، ليلة الإسراء، وأن الرسول صلَّى بعد الهجرة سبعة عشر شهرًا نحو (بيت المَقْدِس) قبل تغيير جهة القِبلة إلى الكعبة.(8) وهو ما يرِد كذلك في «صحيح البخاري»: أنه «صلَّى إلى (بيت المَقْدِس) ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا».(9)
وكذا كان يصلّي الرسول قبل الهجرة إلى بيت المَقْدِس، كما يدلّ ما ساقه (ابن إسحاق) عن إسلام (عُمَر بن الخطّاب)- برواية (عطاء )، و(مجاهد)- حيث رويا أنه قال: «جئت المسجد أُريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، قائم يصلِّي، وكان إذا صلَّى استقبل (الشام)، وجعل الكعبة بينه وبين الشام...». (10).
أمَّا قِصَّة الإسراء، كما رواها (ابن إسحاق)، فتقول: «قال محمَّد بن إسحاق، وكان فيما بلغني عن (أُمّ هانئ بنت أبي طالب، رضي الله عنها)، واسمها (هند)، في مَسْرَى (رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم) أنها كانت تقول: «ما أُسْرِي برسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، إلَّا وهو في بيتي، نام عندي تلك الليلة في بيتي، فصلَّى العِشاء الآخِرة، ثمَّ نام ونِمْنا، فلمَّا كان قُبيل الفجر، أهبَّنا رسولُ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، فلما صلَّى الصبح وصلَّينا معه، قال: يا أُمَّ هانئ، لقد صلَّيتُ معكم العِشاء الآخِرة كما رأيتِ بهذا الوادي، ثمَّ جئتُ (بيتَ المَقْدِس)، فصلَّيتُ فيه، ثمَّ صليتُ صلاة الغداة معكم كما ترين. ثمَّ قام ليخرج؛ فأخذتُ بطرف ردائه... فقلتُ له: يا نبيَّ الله، لا تُحدِّث بهذا الناس فيكذِّبوك ويؤذوك؛ قال: والله، لأُحَدِّثَنَّهُمُوه! قالت: فقلتُ لجاريةٍ لي حَبشيَّة: ويحكِ، اتبعي رسولَ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، حتى تسمعي ما يقول للناس، وما يقولون له! فلمَّا خرج رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، إلى الناس، أخبرهم، فعجبوا، وقالوا: ما آية ذلك يا محمَّد؟ فإنَّا لم نسمع بمثل هذا قَطّ! قال: آية ذلك أني مَرَرْتُ بعِير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأَنْفَرَهم حِسُّ الدابَّة، فنَدَّ لهم بعيرٌ، فدَلَلْتُهم عليه، وأنا مُوجّه إلى (الشام). ثمَّ أقبلتُ حتى إذا كنتُ بـ(ضَجْنَان)، مررتُ بعِير بني فلان، فوجدتُ القومَ نيامًا، ولهم إناءٌ فيه ماء قد غطَّوا عليه بشيءٍ، فكشفتُ غطاءه وشربتُ ما فيه، ثمَّ غطَّيتُ عليه كما كان، وآية ذلك أن عِيرَهم الآن يُصوِّب من (البيضاء)، ثنيَّة (التنعيم)، يَقْدُمها جَمَلٌ أَوْرَق، عليه غرارتان، إحداهما سوداء والأخرى بَرْقاء. قالت: فابتدر القوم الثنيَّة، فلم يَلْقهم أوَّلَ من الجَمل، كما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء؟ فأخبروهم أنهم وَضَعوه مملوءًا ماءً ثمَّ غطَّوه وإنهم هَبُّوا فوجدوه مُغطًّى كما غطَّوه، ولم يجدوا فيه ماءً. وسألوا الآخَرين، وهم بمكَّة، فقالوا: صدقَ، والله، لقد أُنفرنا في الوادي الذي ذكرَ، ونَدَّ لنا بعيرٌ، فسَمعنا صوتَ رجُلٍ يدعونا إليه، حتى أخذناه. قال ابن إسحاق: وحدَّثني مَن لا أَتَّهم، عن (أبي سعيد الخـُدري، رضي الله عنه)، أنه قال: سمعتُ رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول: لمـَّا فرغتُ ممّا كان في (بيت المَقْدِس)، أُتِـيَ بالمعرا، ولم أر شيئًا قطُّ أحسنَ منه، وهو الذي يَمُدّ إليه ميتُكم عَيْنَيْه إذا حُضِر، فأصعدني صاحبي فيه.»
وسَردُ هذا الاقتباس الطويل لبيان وُجهة الإسراء. غير أن إنكار الشمس ما عاد مستغرَبًا من بصير، وتكذيب النصوص ما عاد مستهجَنًا ممّن مَرَدوا على إعادة تعبئة التاريخ في قوارير مستطرقة، على أشكال أهوائهم السياسيَّة وتحيُّزاتهم الذهنيَّة. فهبْ أن (بيت المَقْدِس) في بلاد (غامد)، وأن (الشام) في جبال (السَّرَوات)، فأين يقع (ضَجْنَان)؟ وأين تقع (البيضاء)، أو (ثنيَّة التنعيم)؟ المكانان اللذان ذُكِرا في النبأ وحُكِي عن النبي أنه مَرَّ بقافلتين لديهما؟ إنهما مكانان معروفان شمال (مكَّة)، على طريق قوافل (الشام)، ما تزحزحا بعد من مكانيهما كي تستقيم أباطيل المبطلين.
** ** **
(1) (1993)، ديوانه، تحقيق وشرح: محمَّد شفيق البيطار (دمشق: دار شراع)، 81.
(2) (1972)، ديوانه، جمع وتحقيق: عبدالله الخطيب (بغداد: مطبعة شفيق)، 43/ 12.
(3) انظر: (1347هـ)، التِّيجان، (حيدر آباد الدكن- الهند: دائرة المعارف العثمانيَّة)، 169- 170.
(4) البخاري، (1993)، صحيح البخاري، عناية: مصطفى ديب البُغا (دمشق- بيروت: دار ابن كثير- اليمامة)، 3: 1409- 1410 [الحديث 3673]. (5) 3: 1412 [الحديث 3675].
(6) على الرغم ممّا أثير حول «سيرة ابن إسحاق» من طعنٍ في روايته، فعندي أنها ذات قيمة مائزة لمن لا يبحث عن صِحَّة المعلومة التوثيقيَّة، بل عن ثقافة الناس ولغتهم ومخيالهم الشعبي، بما فيه من حكايات وخُرافات وأساطير. وأزعم أن من وقفوا موقفهم ممّا دوَّنه (ابن إسحاق) لم تكن مآخذهم عليه عِلْميَّة دائمًا، بل لأن الرجل كان صادقًا وأمينَ الرواية، فسجّل ما بلغه دون تدخّل، ومنه ما لم يكن مرضيًّا عنه، بالطبع، دِينيًّا أو اجتماعيًّا. فكانوا مضطرِّين إلى أن يُعمِلوا في كتابه مشارط التهذيب والتشذيب والحذف، فضلًا عمّا أضاعوه من الكتاب، عن عمدٍ أحيانًا، حتى لم يبق منه في العالم اليوم إلّا قِطَع غير كاملة.
(7) (1976)، سيرة ابن إسحاق المسمّاة: المبتدأ والمبعث والمغازي، تحقيق: محمَّد حميدالله (فاس: مطبعة محمَّد الخامس )، 274. (8) انظر: م.ن، 266، 277.
(9) 1: 155 [الحديث 390].
(10) ابن هشام، (1955)، السيرة النبويَّة، تحقيق: مصطفى السقا؛ إبراهيم الإبياري؛ عبدالحفيظ شلبي (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي)، 1: 347.