د. صالح بن سعد اللحيدان
فوجئت باتصال هاتفي على مكتبي العلمي القضائي فرفعت السماعة فإذا المتصل الأستاذ الدكتور: عبدالله بن صالح العثيمين الأمين العالم لجائزة فيصل العالمية وإذا هو بعد السلام يعرض علي ضرورة المشاركة في دراسة الأعمال العلمية الشرعية فالفقه وأصوله التي سوف ترشح لجائزة فيصل العالمية.
فقلت له : هذا أمرٌ يشرفني إلا أنني في عجلة من الأمر للسفر إلى القاهرة ثم الأردن وعمان لحضور بعض المؤتمرات القضائية والعلمية ولكنه جزم على موافقتي. وقال : إن حالك معنا ونحن معك أشد ضرورة، لا سيما واختيارك خبيراً في الدراسات العلمية أمرٌ يوجبه عليك علمك وعقلك، وحين قال هذا كان من لازم الحال أن الوقت كان متسعاً لي لا سيما في عمان فرحبت بهذا وشكرت له ولهم اختياره.
وفي اليوم الثاني تم زيارتي لمقر المركز فقابلني بترحابٍ يحوطه حسن الخلق وأريحية العالم والمثقف الذي استفاد من قراءة التاريخ وسير الرجال، بعد ذلك جلست في المكان المخصص للدراسة العلمية وكانت ثلاثة أيام تترا تبدأ من التاسعة صباحاً حتى الحادية عشرة من نفس اليوم، وقد أخذت صورةً علمية وصورةً نفسية وصورةً ذهنية عن هذا الرجل الذي لم يفتر عن التبسم ومن التبسم بين أريحية وصدق خطاب.
لقد ناقشته كثيراً عن التاريخ وسير الحضارات عبر القرون فكان ملماً إلماماً جيداً في التاريخ المعاصر وكان ملماً إلماماً جيداً في التاريخ القديم، وكنت أناقشه في الأسانيد وحقيقة المتون التي لم يعرها المؤرخون والإخباريون وكتاب السير شيئاً ولكنه كان يقول: إن التاريخ والأخبار والسير تسير وفق نمط لا تحتاج فيه إلى التدقيق في الأسانيد لأنهم لا يحتاجون إلى إثبات حكمٍ أو قضية، وكان صادقاً في هذا ومتمسكاً به.
فقلت له : إن سرد الأخبار والروايات والآثار دون سند إنما تعتبر من باب المذكرات والنقل المجرد، وهذا قد نتساهل فيه إلا أن الأمر إذا تعلق برواية ينبني عليها حكم شرعي أو قضية تاريخية من القضايا المهمة فإن الإسناد هنا لا بد منه، فقال: كيف؟ فقلت: مثل قضية التحكيم بين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص، فإن هذه القضية إسنادها باطل، أبطلها الإمام الطبراني في المعجم الأوسط، وقال: إن سندها ليس بثقة؛ ومثل قضية قبر آمنه بنت وهب أم النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها لم تقبر في الأبواء، ولم يثبت هذا في حديث صحيح.
نعم ذكرها بعض المؤرخين دون سند يقوم عليه حقيقة المتن وأبطلها الطبراني وبين أنها ليست بذاك، ونفاها ابن مسعود الصحابي المعروف رضي الله عنه؛ وكذلك قضية إحراق طارق بن زياد للسفن، فإن هذا لم يثبت بسندٍ صالح، فقال لي رحمه الله رحمة واسعة: هذا صحيح، ولا نشكك فيه، فليته يظهر للناس من أجل انتشاره وتصديق الناس له، لكنني إلى الآن لا أقوى على مثل أن أقول إن التاريخ يحتاج إلى إسناد دائماً، لكن القضايا والحوادث التي تحتاج إلى الذمة ويذكر فيها أشخاصٌ بأعيانهم فإنه هنا لا بد من الإسناد.
وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لبينت في رسالة خاصة أهمية الإسناد مع أنني أؤمن به أشد الإيمان لضبط الآثار من أن يدخلها داخل أو شك؛ وكان وهو يناقشني قليل الحركة، هادي الطبع، ينظر دائماً إلى الأسفل، وهذا دالٌ من باب التحليل النفسي الفيسلوجي على الثقة بالنفس، وتمام ضبط ما لديه من رأي، وهو دالٌ من جهة أخرى على أنه على درجة عالية من الذكاء وسعة البال وحسن الخلق.
وكان بين فينة وفينة يهاتفني وأهاتفه، فكنت ألقى منه السؤال وراء السؤال، وكان يلقى مني مثل ما ألقى منه، ولكنه يزيدني أشياء لم تدر في خلدي من كتب التاريخ قديمها وحديثها، مع ما حباه الله من قوة الاستحضار، ودقة الملاحظة، وحسن السمت؛ وكان إلى هذا دائماً في حال ابتسام، وفي حال طلب المزيد من المعرفة في ما يخص الأسانيد وأحوال الرجال وتراجمهم ودرجة كل راو من الرواة منذ القرن الأول إلى القرن العاشر.
أنا شخصياً أعتبره شيخاً للمؤرخين على جانب أقوله من باب العلم بالشيء، ومن باب إنزال الرجل في منزلته، ودائماً ما كان يقول: إن التاريخ مدرسة إذا لم نستفد منها فماذا تنفع القراءة صاحبها؟! ودائماً يقول: إذا لم نعِ حقيقة شواهد التاريخ، فإننا نقع في الخطأ لأن الأول لم يترك للآخر شيئاً رحمه الله.