د. صالح بن سعد اللحيدان
لعل القول فيما يمكن قوله صوب مثل هذه الأحكام اللغوية التي آخذها من مجريات الأسفار من السلف في مطولاتهم وكتب الفروع.. لعل القول هنا ليس مثل القول الذي يمكن أن يكون في كتب المعاصرين الذين يكتبون ويحللون ويحققون.. ذلك أنني قد عاينت شيئًا كثيرًا، يحتاج إلى أن يبدأ كثير من المعاصرين بحقيقة التقعيد والتأصيل في مسائل العلم، ولاسيما إنزال النص على الواقعة، وإنزال الواقعة على النص؛ فهو حقيقة لا تقبل الجدل.
ولقد رأيت حتى عند كبار العلماء المعاصرين في بلدان ما يقع عندهم مما طرحوه مما يحتاج إلى بيان وتفصيل وتأسيس على أساسيات النص.
وبيت المشكلة وما يدور حولها هو الخلط بين كثير من الآثار وكثير من الأسماء والكنى والألقاب.. حتى لعل المطالع يفهم شيئًا ليس بالصواب؛ لأن إحالة الكلام أو الأثر أو النص إلى غير قائله إنما هذه تُعتبر في أساسيات النقد تدخل تحت دائرة العجلة، وإرادة النتيجة كيفما اتفق.
ولا شك أن مثل هذا يحتاج إلى قدرات زائدة في استيعاب ما كتبه الأقدمون خلال العهود السالفة.
وهذا يحتاج إلى طول نفس وسعة بال وقوة ملاحظة، كما يحتاج إلى سعة الاطلاع مع استعداد نفسي واستعداد فكري إلى إيصال الحقيقة إلى القارئ.
وإن حصل مع هذا إضافة جديدة لم يسبق إليها صاحبها فهذا حسن، كما فعل من قبل الفراء وابن جني وسيبويه والكسائي والثعالبي.
وكما فعل من قبل البخاري ومسلم والترمذي.
وكما فعل ذلك الكرماني وعلي بن المديني ويحيى بن معين وشعبة بن الحجاج وقتيبة بن سعيد وأيوب السختياني.
وكما فعل من قبل هذا بواسع من نظر متين ابن قتيبة في الأدب والنقد.
وكما فعل القرافي وابن فرحون والأمودي، وسواهم خلق لا يحصون من الموهوبين عبر سنين متعاقبة.
هؤلاء الذين ذكرتهم لا محيص من القول إنهم أصَّلوا وقعَّدوا المسائل وبيان حقيقة مذاهب العلم وأهل العلم في الأحكام والأدلة، ولاسيما الأسماء والكنى والألقاب مع ضابط الظرف الزمني لإنزال الحقيقة في مكانها لا تريم.
من هذا المنطلق فإني أنحو باللائمة على كثير من الذين قرأت لهم أو ناقشتهم؛ فإني وجدتهم إلا القليل يحتاج إلى معايير جيدة كحال من سلف ذكرهم في أسفارهم الخالدة.
وإذا كان كذلك فإنني أبين بعض الشيء مما يحتاج إلى بيان.
أولاً: سعة البال والغوص في أعماق المطروح عند المتقدمين. هذا أمر مهم بحد ذاته.
ثانيًا: شدة المراجعة مع ضرورة السؤال عند من لديه اختصاص في مثل هذا.
ثالثًا: عدم الحرص على كثرة الكتابة والتأليف حتى يكون لدى الشخص آليات قادرة على الإضافة النوعية.
رابعًا: قوة الفهم لدى ما طرح الأقدمون، وهذا يدفع العالم والمثقف والناقد والكاتب لشيء قد يقوده إلى التجديد.
وهذا بعض ما أحرص على بيانه:
أولاً: كتاب، وهذا أصله مصدر من كتب يكتب أو هو يكتب كتابًا أو كتابة. ويمكن القول كذلك (كتبًا). وأصل هذا يراد به الجمع. وهذا من المشترك اللفظي.
وإنما المقصود الكتابة بالقلم؛ وذلك أنه به تجتمع الحروف والكلمات؛ لتؤدي إلى المعنى، وأعني بهذا (المكتوب).
ثانيًا: أبو سعيد الخدري، وهذه كنية اشتهرت عند عامة العلماء والباحثين، وهي كنية قد يشترك صاحبها بالاسم مع أبي أيوب وأبي موسى. وهذا قد حصل.
وإنما المقصود أن أبا سعيد الخدري صحابي جليل، واسمه: سعد بن مالك بن سنان الخزرجي، واشتهر بكنيته. هو وأبوه صحابيان ت74 هـ.
ثالثًا: ابن حبان، هذا اللقب لا يكاد كتاب علمي أو كتاب نقدي أو ثقافي أو ترجمة للرجال الكبار علمًا وأدبًا إلا ويرد فيه ابن حبان.
وابن حبان اسمه محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد بن مرة بن هدبة بن سعد الدارمي.
ويكنى بابي حاتم التميمي البستي الحافظ الثقة، صنف في التاريخ والثقات والضعفاء. من شيوخه النسائي وابن خزيمة، ونقل عنه الإمام الحاكم.
رابعًا: ابن جبير، وهذا اللقب مشهور عند الأقدمين ممن دون في التراجم والسير والأخبار، وله مواقف مع عبدالملك بن مروان والحجاج بن يوسف.
قالوا عنه ثقة ثبت حجة.
قال أحمد: قُتل ابن جبير يوم قتل وليس على وجه الأرض إلا وهو بحاجة إلى علمه.
وهو أحد كبار ملازمي ابن عباس الصحابي الجليل. وإنما اسمه سعيد بن جبير بن هشام الوالبي الأسدي، ويكنى بأبي محمد الإمام الحجة.
خامسًا: الطغرائي، هذا هو المعروف، وهو المدون عند من ألّف عن كبار العلماء والأدباء والشعراء.
وإنما هو الحسين بن علي، ويكنى بأبي إسماعيل.
والطغرائي نسبة إلى مهنته فإنه كان يكتب الطغراء الطره في أعلى الكتب بخط تميز به.
ولد بأصبهان من أسرة فارسية، ثم تقلب بحكم آل سلجوق.
سادسًا: أبو العتاهية، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد، ويكنى بأبي إسحاق. ولد بقرية بالحجاز، لكنه انتقل إلى الكوفة ونشأ بها، وكان من شعراء الحكمة والأمثال، وكان قليل الكلام جادًّا أبيض اللون، له شعر من قفاه، وله شِعر جرى مجرى الأمثال.
سابعًا: ابن زيدون، يكنى بأبي الوليد، وإنما اسمه أحمد بن عبدالله بن زيدون، ولد بقرطبة سنة 294هـ، وكان والده فقيهًا وأديبًا، فأخذ عن والده الفقه والأدب، وكان حييًّا، يميل إلى الجد وقلة الكلام.
له كلام جرى مجرى الأمثال، وله شعر فيه نوع من الحزن، ولكنه يمتلئ بالحكمة والتجربة وعمق النظر.
هذا وأمثاله لعلهم من النوادر فيما وضعوه من الدرر التي سرت وجرت مجرى الأمثال.
وإذا كانت المعاناة الدائمة تولد الإبداع فإن التجديد والنقلات النوعية غير المسبوقة قد تجلب الحسد، خاصة من أبناء العم أو أبناء الخال أو الزملاء.. وقد يجر هذا إلى الوشاية، وإذا كانت من قريب مسموع الكلمة بسبب جاه أو مال فإن هذا قد يؤثر على المحسود الغافل، إلا أن الله - جل وعلا - يحفظ المضيم، ويهب الله لكثير من الحكام قوة النظر وصدق الفراسة فيحمون الموهوبين من الحسد والضغينة ومحاولة قطع الطريق.
ولنا في سورة (الفرقان) آية عجيبة، بل آيات، وكيف تم الحسد للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قيض الله له الظهور.