د. محمد البشر
يشتكي الكثير من النسيان في هذا الزمن العجيب، ويكاد يكون هذا الداء شاملاً جل المعاصرين بغض النظر عن العمر، والمكان، والمهنة، والوظيفة، وأصبح من الضرورة أن يكتب المرء ما سيفعله في مذكرة الهاتف، أو في وريقة يحملها في جيبه، إذا سلم من نسيانها.
وقد يكون الأسباب متعددة، لكن من أهمها أن هذه الأجهزة التي جعلت الكثير يعتمد عليها في كل صغيرة وكبيرة، وأصبحت الذاكرة غير منشطة، فركنت إلى الدعة والخمول، أو أن الانشغال بما قد لا يكون ضرورياً يشتت الذهن، ويجعل الإنسان بعيداً عن التركيز على ما يحتاجه، فتتشابك الأولويات، ويضيع الأهم في خضم خليط عجيب بين بنود جلها قليل الفائدة إن لم يعد عديمها.
وسائل الاتصال الاجتماعي، الواتس أب، والسناب شات، والإيميل، ويوتيوب، وغيرها كثير، إضافة إلى المراسلات، والمحادثات الهاتفية، تجعل المرء مشتت الذهن.
أنا على يقين أن هناك دراسات حول عدد الساعات، وليس الدقائق التي يقضيها الفرد، لاسيما في عالمنا العربي، في استخدام هذه الوسائل، ومن المؤكد أن هناك دراسات لنسبة ما هو مفيد منها للفرد والمجتمع، وأكاد أجزم أن ما هو مفيد لا يكاد يُذكر، لا سيما عند بعض المجتمعات.
الآيباد بألعابه وما يعرض فيه من أفلام يأخذ وقتاً من أولئك الغارقين في حب هذا النوع من التسلية التي أصبحت شبه إدمان عند البعض، وكأن تلك الجملة الحاضرة دائماً والتي نصها: دعونا نضيع الوقت.. ماثلة اليوم عبر هذه الأجهزة. وكان بعض الناس فيما مضى يضيع وقته في الحديث والاستئناس بالزيارات، وقد يكون الحديث حول الزرع والنخل، أو في بعض الأحيان انتقاد الأفراد.
اليوم أصبح الكثير مشغولاً بالسياسة وتتبع أحوالها أكثر من انشغاله بماله وولده، وعندما ينبرى عبر هذه الوسائل للحديث يتفسلف فلسفة أبعد ما تكون عن الواقع، ولو أوكل إليه أمر من الأمور التي ينتقدها فربما تكون أسوأ على يده ممن ينتقده.
الفتوى ونقل غثها وسمينها أصبحت سائدة عبر هذه الوسائل دون تدقيق وتمحيص، مما يجعل النشء يحتار في أمره، أيهما يختار، وأي طريق يسلك، وقد يقول قائل الحق أبلج، ومن اليسير التفريق بين الغث والسمين، لكن قد يكون ذلك صواباً عند من اتسع اطلاعه، وحسنت فطنته، ونضج عقله من خلال عمره وعقله، أما أولئك الذين ما زالوا في مقتبل العمر فحسبهم من يرشدهم إلى التفريق بين الصحيح والسقيم، وهذا ما يصعب تحقيقه عبر باب مفتوح للمعلومات والفتيا من كل حدب وصوب.
الرياضة تأخذ مساحة واسعة من التحليل، والتنظير، والنقد، والمدح، والذم، وكل يدلي بدلوه غير المنصف، لأن الهوى في هذا الشأن له باع طويل، وإذا انهزم الفريق الذي يشجعه الفرد وجه إليه سهام النقد، والعذل، والبحث عن دقائق العيوب، حتى وإن كان الحظ هو السيد الذي إضاع على الفريق الذي يستهويه لذة نشوته بالنصر، وإذا كان الفريق الذي يشجعه قد فاز بطريق حظ، نسي كل ما حدث في الملعب، وغض الطرف عن الأخطاء، وتفاءل وتطلع إلى المستقبل بقلب مفتوح.
كل هذا الكم الهائل من المعلومات التي تصل إلى الفرد في اليوم الواحد، إضافة الى النواحي الاجتماعية السائدة، والإضحاك، والتوعية تجعل عقله مشتتاً، وذاكرته أقل قدرة على حفظ ما يرغب عمله من عمل مفيد يخصه.
وشيء آخر قد يكون ذا أثر على الذاكرة، وهو سهولة الحصول على المعلومة عبر الإنترنت، وهذا يقلل من الاضطرار إلى الحفظ والتسميع، ولم يعد المرء في حاجة إلى حفظ المتون، من حديث، وتفسير، وفقه، وشعر، ونثر، وهذا عامل مهم في تعطيل الذاكرة، وإذا أخذنا في الحسبان أن الأسلوب التعليمي المتبع في العصر الحديث يكاد يمحو حفظ المتون، والاعتماد على الفهم وحسب، وليس الجمع بينهما بدرجات مناسبة، فإنه يمكننا إضافة هذا العامل إلى العوامل الأخرى، وإن كان السابقون قد بالغوا في حفظ المتون، لأنها الوسيلة المتاحة آنذاك، فإن أبناء هذا العصر، قد بالغوا أيضاً في الانصراف عنها.
أذكر أن أستاذاً يدرس الإحصاء في إحدى الجامعات الأمريكية، بعد بداية ظهور الكمبيوتر، والكروت المثقوبة، كان يمنع الطلاب من فترة إلى أخرى عن استخدامه، كما أن عمليات الإحصاء المعقدة يطلب أحياناً إنجازها دون آلة حاسبة، لتنشيط الذاكرة، أما اليوم فأعتقد أنه غير قادر على فعل ذلك.
يبقى القرآن الكريم وحفظه ومراجعته أفضل فعل، ويمكن أن يحفز الذاكرة، ويروضها، ويجعلها أجمل نشاط، إضافة إلى ما فيه من ترويض النفس، والعقل، وفوق ذلك كله تقرباً لله وطلب رضاه.