د. محمد البشر
قلّب الإرهاب صفحات عديدة عبر عمره الذي امتد أطول مما يجب أن يكون، وإحدى تلك الصفحات هي ذلك الحدث الإرهابي المؤلم الذي حط رحاله في العاصمة الأوروبية والبلجيكية بروكسل، وقضى على أكثر من ثلاثين بريئاً وأكثر من مائتين وثلاثين جريحاً، لم يكن لهم من ذنب، وإنما صادف وجودهم في مطار بروكسل، وكذلك محطة المترو، حدوث ذلك الهجوم الإرهابي الشنيع الذي لا طعم ولا لون له ولا رائحة.
بروكسل، عاصمة بلجيكا، قلب أوروبا النابض ذات الأعراق واللغات الثلاث المتعايشة مع بعضها أكثر من قرن من الزمان، وكثيراً ما نسمع من البلجيكيين تلك المداعبة النقية البريئة بين الفلامش والفرنسيين، وقناعة طرف بتفوقه على الآخر في مجمل الميادين، وهم جميعاً قلب واحد متماسكون ساعون في خدمة وطنهم، وقلما نجد بلجيكياً لا يتحدث أربع لغات أو تزيد، وتسمع تلك الرطائن في المقاهي المنتشرة في كل طريق وميدان من ميادين بلجيكا الجميلة، ومناظر الشكولاتة البلجيكية المشهورة تتوزع في الحوانيت المختصة في بيعها.
بلجيكا فتحت يديها لكثير من المسلمين العرب والأتراك وغيرهم من الأمم، ورحبت بهم وعاملتهم معاملة لينة، حتى إن بعضاً من الدول الأوروبية تلومها على سماحة قوانينها واتساع صدرها، وبها أكبر جالية من الدول المغاربية العربية نسبة إلى عدد سكانها، وقلما ترى فرقاً بين المسلم وغيره من أتباع الديانات الأخرى، ومن النادر أن تسمع حادثاً في بلجيكا وقع بسبب عرقي أو ديني مقارنة بغيرها من الدول الأوروبية المنفتحة.
وتقول إحصائيات الغرب إن عدد الذين ذهبوا إلى الالتحاق بداعش في العراق وسوريا من الاتحاد الأوروبي نسبة إلى عدد السكان قد ذهبوا من بلجيكا، وربما أن بعضاً منهم قد عاد إلى بلاده بعد أن تم التضييق عليه من قبل التحالف الدولي المتضامن لمحاربة داعش، ولا شك أن عدداً من أولئك الداعشيين قد حملوا معهم نمطاً جديداً من الفكر الداعشي في أذهانهم زيادة على البنية الجهادية الظلامية التي حملوها معهم في طريقهم إلى مناطق الحرب الداعشية في البلاد العربية.
أعلنت داعش مسؤوليتها عن التفجير في بلجيكا، وربما تكون صادقة في ذلك أو كاذبة، لكن من المؤكد أن أولئك المفجرين الإرهابيين أسيرو الفكر الداعشي الإرهابي، بل وربما ترسّخت القناعات لديهم بأن ذلك سوف يحقق لهم مكاسب أخروية، بعد أن فشلوا في عمارة الأرض كما أمر الله عباده بذلك، وكان تضارب الطموح، والفشل العملي بسبب الكسل، أو البيئة أو الجهل، أو الضغوط النفسية، أو حتى العوامل الوراثية، كفيلاً بركوبهم مطايا داعش أو تحقيق مطامع خاصة به، مما جعل أولئك السائرين في الركب، واللاحقين بكل ناعق، وقود هذه النار الحارقة للبشر الأبرياء والحضارة والتقدم الإنساني.
من المؤلم أن أولئك الداعشيين قد جعلوا الإسلام شعاراً لهم وهو بريء منهم، براءة الذئب من دم يوسف، فشتان بين دين يدعو إلى السلام والمحبة والوئام، ويحرم قتل النفس، ويصف قائلها بأنه كمن قتل الناس جميعاً، وبين جماعة مجرمة إرهابية تدثرت بهذا الدين القويم البعيد كل البعد عن فعلها ومآربها.
الإرهاب أعطى للعالم أجمع مؤشرات كثيرة أنه قادر على الوصول إلى الأهداف الأسهل، وأنه لا يمنعه عن ذلك بعد المسافة، ولا نوع ثقافة البلاد المستهدفة، فهو يستخدم التقنيات الحديثة للتواصل الفكري، وليس بالضرورة التواصل الميداني للتخطيط والتنفيذ فيكفي أن يصل الفكر إلى مجموعة بعينها لتكون خلية تصبح مستعدة للقيام باستهداف هدف سهل لها، وهكذا تجعل العالم في ذعر، وتوحي للناس قدرتها وانتشارها.
المملكة العربية السعودية، قيادة سياسية، ودينية، وشعبية، أدانت وتدين وتمقت الإرهاب وتعمل على محاربته منفردة وفي كل التحالف الدولي، وتسعى لمحاربته بشتى صوره من أحزاب ومجموعات وأفكار، وهي تنفق الجهد الكبير والمال الوفير في تحقيق الإطاحة به أو التقليل من حركته، ولقد كررت مرات عديدة النصح للدول الأوروبية بقطع دابره، وعدم ترك مساحة من الحرية بدعوى حقوق الإنسان لزرع بذرته ونشر سمومه.
والمملكة أكثر الدول تضرراً من الإرهاب وأكثر الدول محاربة له، لأن الإرهاب لا يتماشى مع النهج الإسلامي القويم الذي جعلته المملكة دستوراً لها.
اللهم احم بلادنا وبلاد العالم من هذا الداء، واقطع دابر الأعداء، وأدم علينا الأمن والأمان.