د. جاسر الحربش
لا أعتقد أن الأخذ بمبدأ سد الذرائع أسيء استعماله أكثر مما حصل في إشراك المستقدم الأجنبي في شؤوننا العامة والخاصة. لم يحدث في التاريخ أن مجتمعات لها مؤسسات وأنظمة وسيادة وثقافة تدعي تفوقها تنازلت عن أهم المسؤوليات الاجتماعية لمستقدمين أجانب. السابقة الأولى وربما الوحيدة في التاريخ كانت من نصيب دول مجلس التعاون الخليجي. الدولة الأكبر في هذه المنظومة أوشكت نسبة المستقدم الأجنبي فيها على الوصول إلى الخمسين بالمائة، أما بقية دول المجلس فتعدت التسعين بالمائة منذ عقود. الآن توجد في كل مدينة خليجية أحياء وأسواق وأزقة وسراديب لا يستطيع أشجع أبناء البلد دخولها للاطلاع على ما يجري داخل أجزاء من وطنه لا يشملها المسح السكاني ولا تتعرض لها الأخبار اليومية.
رغم ذلك ليست المشكلة الحقيقية في الكانتونات ولا في الأموال التي تستنزفها وتحولها إلى بلدانها الأصلية. الإشكال العجيب الغريب هو أن هذه المجتمعات، بتشارك كافة الجهات الإدارية والشرعية والاجتماعية، سلمت ما لا يفكر عاقل بتسليمه للغريب الطارئ عنها في كل شيء. النساء والفتيات والأطفال من الجنسين، وهي الفئات الصامتة والضعيفة التي يسهل انتهاكها، أصبحت في عهدة الغريب المستقدم. لا تستطيع امرأة الذهاب إلى السوق، العمل، المستشفى، حفلة زواج، زيارة الأقارب إلا برفقة السائق الأجنبي في النهار والليل. الأطفال والمراهقات والمراهقون لا يستطيعون الوصول إلى مدارسهم ثم إلى بيوتهم إلا في عهدة السائق الأجنبي. العجائز والمرضى وذوو الإعاقات الجسدية والنفسية، أكثرهم تشرف على إطعامهم ونظافتهم وقضاء حاجاتهم عناصر أجنبية. الطبخ والتنظيف وتقديم الوجبات وترتيب غرف النوم وتسريح الشعر صارت كذلك من الخدمات اليومية الموكلة للأجانب.
ماذا بقي إذن؟. النساء والفتيات والأطفال والعجائز والمطابخ وغرف النوم ودورات المياه والتحركات خارج المنزل في النهار والليل لم تعد من مهام المواطن الخليجي. جمع الأموال وتحويلها إلى الخارج والكانتونات المغلقة وسراديب الأحياء المظلمة هذه تكلمنا عنها في المقدمة.
لأن الجهات المسؤولة التي من واجبها التحوط والتحذير بناءً على الدراسات المعمقة أخلت بواجباتها وصمتت وشاركت في السباحة داخل نفس المستنقع، أحاول هنا تفكيك المشكلة إلى أسباب ونتائج. الأصل في الاستقدام في بداياته كان لتسريع التنمية والبنيات التحتية في مجتمعات تنقصها الكفاءات والمؤسسات وخبرات التعامل مـع مستحقات الثروة المفاجئة. في هذا المجال يدخل تعبيد الطرق وبناء المساكن والمؤسسات وتشييد الجسور وتشغيل المرافق الصحية والكهرباء والمياه، بالإضافة إلى الاستعانة المقيدة برامج زمنية، في البنوك والشركات وللتدريس والتدريب في المجالات العلمية والتقنية التي لا تتوفر لها الطواقم المحلية. ما لا يصح أن يدخل في هذا المجال كانت المسؤوليات الاجتماعية وكسب الأموال والتحكم والسيطرة على مفاصل المستقبل. الخطأ الفادح كان استمراء الاسترخاء منذ بدايات الاستقدام والانصراف إلى الاستمتاع الرخيص التافه والتنازل طوعاً عن الأولويات الاجتماعية وتسليمها إلى طوفان مستقدم من البشر، مقابل أجور منظورة وفواقد مالية وأخلاقية وأمنية مطمورة تحت طبقات الصمت المطبق. هذا الاستمراء الإرتخائي تلقفته تجارة الاستقدام والتأشيرات والمتاجرة بالبشر والممنوعات، وحولته إلى أخطبوط لا يعرف المجتمع أين رأسه لكثرة أطرافه ومجساته وقرون استشعاره.
عندما نقول انقلبت الصورة نعني أن الرأس أصبح في الأسفل والأقدام في الأعلى، وهذا ما حصل في المجتمعات الخليجية. أصبح المستقدم هو الرأس، في يده الأموال والمتجارة ومفاتيح البيوت والسيارات وأسرار الناس التي قد يجهلها أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهم. ادخل إلى أي سوق، فندق، بقالة، شركة وجرب طريقة تعامل الأجنبي معك كمواطن.
يبقى السؤال الأهم: أين الإحصاءات والدراسات عن الاختلاسات المالية وأحداث القتل والطعن والاغتصاب وانتهاكات الأطفال المحسوبة على الاستقدام ؟. تقديم هذه الدراسات أصبح ضرورة قصوى لإيقاظ الذرائعيين الشرعيين والمبررين بسد الذرائع والغافلين الجهلة، لإقناعهم بأن أجراس الفطام عن ما لا حاجة له من الاستقدام تدق بعنف، وأن الاعتماد على المواطن بشقيه الذكر والأنثى لخدمة أنفسهم وبعضهم البعض هو المتوجب الشرعي والوطني وما عدا ذلك استمرار في الجريمة.