د. جاسر الحربش
قبل أربعين سنة كانت نسبة الكفاءات الصحية الوطنية دون العشرة بالمئة، بما يشمل كل المهارات الصحية. الآن لا تزال النسبة داخل هذا الرقم. الأطباء السعوديون أقل من عشرين بالمئة، ولا أعرف نسبة الكفاءات الفنية والتمريضية العاملة في الميدان فعلاً وأظنها في نفس النطاق. حجة كليات الطب ومعاهد التمريض لمحدودية القبول في السابق كانت الجودة النوعية، وحجة السلطات الصحية في عدم ارتفاع النسب هي الانفجار السكاني وتوسع الخدمات وزيادة المتطلبات. الأعذار مقبولة لكن بشرط الاعتراف بأن التخطيط كان غائباً عن الوعي، أو أنه على الأقل لم يكن على مستوى المستقبل رغم إهدار الأموال بلا حدود.
في الأسبوع الماضي تم التعاقد مع شركة كورية لتبني لنا مائة ألف وحدة سكنية مقابل مبلغ مالي هائل في الوقت الذي نحن فيه على أمس الحاجة للأموال. أريد أن أسأل كمواطن غير متخصص في البناء والتعمير، فقط كمواطن يستعمل عقله خارج البيروقراطية، أين الخبرات والشركات والكفاءات الهندسية الوطنية التي من المفترض أنها تجمعت ونبتت لها عقول وعضلات معمارية خلال أربعين سنة من الحفر والردم والبناء والتشييد ؟. الجواب الأسهل هو الاستنتاج أنها لم تصل بعد إلى الكفاءة الكافية رغم نصف قرن من إمكانات جمع الأموال المتشابك مع إهمال تدريب المهارات الوطنية في الميدان بهدف الوصول إلى مرحلة النضج المعماري الذي يغنينا عن التعاقد الأجنبي. نفس السؤال يصلح عن الكفاءات الصحية وطواقم صيانة الهواتف النقالة وإصلاح أعطال السيارات والطرق والتعامل مع الكوارث البيئية.
لا أظن العثور على الجواب الصحيح صعب. الاعتماد على الاستقدام ومقاولات الباطن وعمالة السخرة المجلوبة من مناطق البؤس العالمي والوثوق بالمشرف الأجنبي كمؤتمن على المسكوت عنه داخل المؤسسة وتقديمه على ابن البلد، هذه بعض الأسباب التي وقفت حاجزاً بين العقل المخطط وبين بناء الإِنسان لصالح الاستعجال في تجميع الأموال بأقصى سرعة ممكنة حتى لو ذهب نصفها إلى خارج البلاد.
المهم، لدينا الآن عناوين كبيرة جداً للتحول الوطني، ولكن ليس لدينا كفاءات وطنية تستطيع المشاركة، ناهيك عن القيام بمهمات التنفيذ. هل سوف يتم التحول الوطني باستخدام الطرق القديمة، أي الاعتماد الميداني على الكفاءات الأجنبية واستبعاد الخامات الوطنية من الحصول من خلال الممارسة الميدانية على تجربة النجاح والفشل، للوصول يوماً ما إلى الاكتفاء العملياتي الذاتي ؟. إن كان هذا ما سوف يحصل، فسوف نبقى في منخفض العشرة والعشرين بالمئة إلى الأبد.
نصيحة لوجه الله ثم للوطن، حولوا نصف مدارس الذكور والإناث إلى ورش تدريب ونصف المناهج الدراسية إلى معامل تطبيق عملي، وضعوا لكل طالب وطالبة شهراً إجبارياً في السنة للتواجد في المستشفيات والمناطق الصناعية وأماكن البناء وشق الأنفاق وتشييد الجسور وممارسة الرقابة التجارية الميدانية. اجعلوا ذلك من متطلبات برنامج قياس، بنقاط تحتسب في شروط القبول للدراسات العليا في المستقبل. هذا المجهود هو ما حقق لكوريا الجنوبية نهضتها ويستحق الاستثمار فيه، لأنه يعلِّم الصلابة والثقة والجدية أولاً، ولأنه يكشف للطالب والطالبة المواهب التي يمكن استثمارها والإبداع فيها فيما بعد.
للتذكير فقط، سبق أن كتبت قبل سنوات مقالاً طالبت فيه بتحويل المدارس إلى ورش ومعامل، وأظن المجتمع بكامله ضج بالضحك آنذاك على هذه السخافة، ولكن رب يوم ضحكت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه.