د. جاسر الحربش
العنوان أخذته من الفيلم الأمريكي (الريف الشمالي - North country). محام هجر مدينته النائية في الريف الأمريكي الشمالي بسبب الإحباط إلى نيويورك ليعيش ويمارس مهنة المحاماة هناك. هذا المحامي يقبل العودة إلى مدينته التي لا يحبها للترافع عن امرأة تعمل في منجم الحديد الذي تعيش عليه كل عائلات مدينته. السلطة المطلقة في المنجم لمالك المنجم، وهذا جعل مجلس الإدارة والنقابة في صفه ضد زملائهم العمال. العمال غالبيتهم من الرجال وتعمل معهم بضع نساء لم يحصلن على أعمال أخرى لكسب الرزق. العمل شاق ومجهد والعمال الرجال يفرغون إحباطاتهم وغرائزهم في اضطهاد العاملات والتحرش بهن وتحريضهن على بعض، وهن يرضخن بسبب الخوف من الرجال ومن التسريح من العمل.
المرأة الأجمل بينهن جوزي، امرأة تحمل في سرها قصة اغتصاب قبيحة أنجبت منها ابنا، ثم طفلة صغيرة من زواج عابر وفاشل، وجوزي هذه تتعرض لأقبح أنواع التحرش والاعتداءات. في تسلسل القصة تقدم جوزي استقالتها وتقرر رفع قضية ضد المصنع ومجلس الإدارة والعمال الرجال الذين كانوا يتحرشون بها ويبثون عنها الإشاعات بسبب رفضها لهم، وفي القصة تفاصيل حزينة أخرى أهمها تبرؤ والدها منها طلباً للسلامة وخوفاً من التسريح من المصنع.
أصدقاء جوزي القلائل ينصحونها بالكف عن القضية، لأن العمال الرجال متضامنون مع بعضهم، والعاملات النساء في صفهم بسبب الهلع، ومالك المصنع ومجلس إدارته يتحكمان في رقاب الجميع. كل من له علاقة بالقضاء والقانون في المدينة الريفية تلك يرفض الدخول في مغامرة مرافعة خاسرة. الإطار العام لأحداث القصة يصور أحداثا ً حقيقية في أمريكا قبل أن تحصل المرأة على أساسيات حقوقها الوطنية والإنسانية، في ظروف كانت فيها كل امرأة تتعرض لعمل مشين لا تملك سوى الصمت طلبا ً للستر عليها وعلى أفراد عائلتها. بسبب الإصرار على رفع القضية تتذكر جوزي ذلك المحامي المهاجر الذي هو في الأصل من أهل مدينتها ثم اعتزلها بسبب القرف من حياة أهلها إلى العمل في مدينة نيويورك. ذلك المحامي كان يزور أقاربه في مدينتهم على فترات متباعدة ويكتفي بعزلته الداخلية حتى أثناء زياراته لهم. تسافر جوزي إلى نيويورك وتقابل المحامي، فيتردد في البداية متعذراً بالقول: إن القطعان متفرقة والأسود مع بعضها، وإذا تفرقت القطعان أصبحت فرائس. لكن المحامي يقبل في النهاية الترافع عن جوزي كنوع من التحدي وفي رأسه خطة جمع القطعان وتفريق الأسود لضربها ببعض.
وبالفعل ترفع القضية ويتم الترافع وسط حضور كثيف من أهل المدينة الريفية، فتتكشف من خلال المرافعات بين الادعاء والدفاع تفاصيل كانت مطموسة تحت طبقات الخوف والاستسلام وطلب السلامة. يكسب المحامي المهاجر قضية جوزي ويرد لها الاعتبار والاحترام في المدينة، ثم يبدأ التحقيق الفيدرالي الحكومي في كواليس مصنع الحديد وتفكيك مفاصل الفساد بداخله.
العبرة في تلك القصة التي حدثت بالفعل في بدايات القرن العشرين الأمريكية تتلخص في عبارة المحامي: حين تتفرق القطعان تتحول إلى فرائس للأسود المتجمعة. ما الفرق بين وضع عرب اليوم ووضع القطعان المتفرقة أمام الأسود الغازية؟. المماحكات والاستعداءات والتشويه بين التيارات المتصارعة داخل كل بلد عربي هو الواقع المطابق لقطعان المواشي المتفرقة. الليبرالي والمغالي المتزمت والمحافظ والإخواني والقبلي والمناطقي والمذهبي، هؤلاء كلهم في الواقع الفعلي مجرد قطعان متفرقة تفترسها أسود متفقة على اقتسام الفرائس. أنصحكم شاهدوا فلم نورث كنتري ولكن بعقولكم، وفيه متسع للقلوب كذلك.