د. جاسر الحربش
في أواخر القرن التاسع عشر شحت الموارد وازدادت المصاريف في إيران. لم تتوفر آنذاك لإيران كوادر وطنية لضبط حركة الأموال ولا المهارات لإدارة وسائل الإنتاج، وهذه الأخيرة كانت في زمنها محدودة بالمحاصيل الزراعية وصيد الأسماك وتجارة التبغ. في نفس الزمن كانت بريطانيا (العظمي آنذاك) وروسيا القيصرية وهولندا تتنافس على المواقع الجغرافية وتمسح مكامن الثروات بالعالم بكامله في غفلة الجهل التي كانت عليها الشعوب والحكومات المحلية، ومنها إيران. بسبب الحاجة إلى السيولة قامت الحكومة الإيرانية باقتراض الأموال من الحكومات والشركات والبنوك الأجنبية للحصول على السيولة، مقابل إعطاء امتيازات مشروطة بوفاء القروض في آجالها المحددة، للتنقيب عن الثروات واستخراجها وتسويقها، بالإضافة إلى الإشراف على إنتاج وتسويق المحاصيل الزراعية الهامة وفتح أجزاء من الموانئ البحرية الإيرانية للسفن التجارية الأجنبية.
خلال عقدين من الزمن وجدت الدولة الإيرانية نفسها مطالبة بتسديد ما وقعت عليه، كما أن بريطانيا كانت قد مسحت مكامن الثروات في الأراضي الإيرانية، وروسيا تهدد وتطالب بحصتها، والولايات المتحدة الأمريكية تحاول الدخول إلى ذلك السوق المفتوح على ثروات هائلة. في النهاية سيطرت بريطانيا على النفط والموانئ وتجارة التبغ المربحة، وحصلت روسيا على حقوق تجارة الكافيار، وبقية القصة تحولت إلى تاريخ صراع بين مراكز القوى في الداخل الإيراني وبين إيران والدول الأجنبية.
ما كان يراد منه تسهيل الاستمرار في أوجه الصرف القديمة بطريقة الحصول على قروض مشروطة، تحول إلى كابوس اقتصادي استمر حتى خمسينيات القرن العشرين. قد يفهم البعض، بقصد أو بغير قصد، أن في هذه المقدمة التاريخية محاولة إسقاط على بعض النقاط في رؤية التحول الوطني السعودي، هذا الفهم خاطئ جملة وتفصيلاًً وكاتب هذا المقال من أول المقتنعين بضرورة التحول وبأهدافه، وقد فهمت من إجابات سمو الأمير محمد بن سلمان في مقابلة بلومبيرج، وهو الإداري الأول في عملية التحول الوطني، أن ما هو مطروح حالياً «رؤية عامة للتحول الوطني» سوف تعرض للنقاش والتمحيص للداخل فيما بعد. هذا التصريح مطمئن ومريح ويقطع الطريق على من يزعم بأن الأمر قد بت فيه وسوف يبدأ التنفيذ في القريب العاجل قبل نقاشه وإدخال مرئيات التعديل والتبديل والحذف والإضافة عليه في الداخل.
في جلسات النقاش المحلية، وهي كثيرة وذات مستوى عالي الوطنية والجودة، يتكرر العتب والتساؤل حول نقص المعلومات وغياب من يعطي التفاصيل في برنامج التحول الوطني عن الحديث الإعلامي المفتوح إلى المواطنين في القنوات السعودية.
من المحتمل أن البت في تحول جذري عندما يمس شركة أو مؤسسة أو حتى وزارة خدماتية قد لا يحتاج إلى تشارك آراء واسع ومفتوح، لكنه عندما يمس وطناًً بسكانه ومستقبله، لا مناص عندئذ من إشراك الناس في الفهم واتخاذ القرار، وبالتالي في تحمل المسؤولية عن الناتج النهائي. الوطن لديه ما يكفيه من أصحاب الرأي والاختصاص والخبرة، ومن تجارب ونتائج الاستشارات والتعاون مع الأجانب، هكذا يصبح المواطن مقتنعاً مشاركاً في النجاح إذا تحقق ومشاركاًً متقبلاً في حالة التعثر لا سمح الله.
من المؤكد أن الدولة الإيرانية في أواخر القرن التاسع عشر كانت لديها الأعداد الكافية من أصحاب الرأي الذين تحفظوا على إعطاء المصداقية الكاملة للاستشارات والوعود ومظاهر الصداقة مع التكتلات الاقتصادية الأجنبية. ولكنها تفاءلت وصدقت ثم حصل ما حصل.
وكلمة أخيرة في منتهى الصراحة: لن يتفاعل المواطن بإيجابية مع مسيرة التحول الوطني بقناعة وإنتاجية ما لم يتم إشراكه منذ البداية في مسؤوليات الربح والخسارة. التحولات الكبرى تحتاج إلى ما هو أكثر من الإيمان بتكامل الاقتصاد العالمي تحت مسمى العولمة. التشارك مع الآخرين في أية جزئية مهما صغرت من الأصول والثروات الوطنية يعني بالضرورة الشراكة مع أطراف تعمل أولاًً وأخيراًً لمصالح مرجعياتها المؤسساتية والوطنية. ولكن هل يخفى هذا القلق الوطني عن الجهاز الإداري المسؤول عن برنامج التحول الوطني؟. بالتأكيد لا، وربما هو على رأس أولويات البرنامج.