أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
يحتجَّ مؤلِّف كتاب «العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود» على أن المسجد الأقصَى في (فلسطين) ليس هو المقصود في نبإ الإسراء بأنه إنما بُني في العهد الأُمويّ(1)؛ لأنه لا يفهم «المسجد» إلَّا البناء، في حين أن «المسجد» في العربيَّة مكان الصلاة والسجود، في بناء أو في غير بناء. ولذلك جاء في الحديث: «جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»(2). ومفهوم «المسجد الأقصَى» ليس، لدى من عرف اللغة والتاريخ، ما بناه (عبدالمَلِك بن مروان) أو غير عبدالمَلِك، بل الأصل أنه يشمل تلك البُقعة المباركة التي بُنيت فيه قُبَّة الصخرة الذهَبيَّة وغيرها من القباب والمساجد المشيدة. ولكن إذا سلَّمنا مع صاحبنا بأن المسجد بناءٌ بالضرورة، فأيّ مسجدٍ مبنيٍّ كان في (سَراة غامد) إبّان الإسراء والمعراج، حيث زعم أن المسجد الأقصى كان؟!(3) بل أيّ مسجدٍ مبنيٍّ كان في الجزيرة العربيَّة كلّها إبّان الإسراء والمعراج ليُسرَى بالرسول إليه، أي قبل الهجرة النبويَّة؟! ذلك أن أوّل مسجدٍ بُنِيَ في الإسلام هو مسجد (قُباء) في (المدينة المنوّرة)، بعد الهجرة، وبعد خبر الإسراء بعِدَّة سنوات. تُرى من الذي قفز ليبني مسجدًا أقصَى في سراة غامد في ذلك التاريخ المبكِّر؟! لا أحد، لكن الرجل يعتقد أن (أورشليم) هناك في سَراة غامد، ما دام تاريخ (بني إسرائيل) كان هناك!
ثمّ ألا يتساءل: لِـمَ كانت القُدْس أُولى القبلتَين؟ أم لعلّه يرى أن بلاد غامد كانت أُولى القبلتَين؟! ثمّ لماذا شُيِّد المسجد الأقصَى في القُدْس في العهد الأُمويّ، ولم يُشيَّد في غامد؟ وكيف جهل ذلك الجيل، وهو جيل الصحابة والتابعين، مكان الإسراء الحقيقي، والمسجد الأقصَى المشار إليه في «القرآن الكريم»؛ فظنُّوه في فلسطين وهو إلى جوارهم في غامد؟!
تُرَى كيف جَهِلَ (عُمَر بن الخَطّاب)، مثلًا، مكان المسجد الأقصَى، بجانب الصخرة، حيث صلَّى النبيُّ وعُرِج به، حسب القِصَّة القرآنيَّة؛ إذ صعد عُمَر الهضبة التي يسمِّيها اليهود جبل (موريا)، واختطَّ مسجده هناك إلى جانب الصخرة، لاعتقاده أنْ ثمَّة موضع ما جاء عن الإسراء والمعراج النبوي؟!
وهو جهلٌ تمتدّ تهمته إلى الرسول نفسه، الذي لم يعلم إلى أين أُسري به، أو أنه علم فأخفى أن أرض الإسراء والمعراج في حقيقة الأمر سَراة غامد، القريبة من مكَّة، وأن (حائط البُراق) ثمَّةَ في أحد الجبال، لا في (إيليا) البعيدة جِدًّا في أقصَى الأرض!
ثم ما دام المؤلِّف يأخذ عن (الطبري)، محتفيًا بـ»تاريخه»، فلِمَ لَم يأخذ عن الطبري محتفيًا بما جاء في تفسيره حول قِصَّة الإسراء والمعراج؟!
ولِمَ لَم يَعتدّ بما ورد حول الإسراء والمعراج في السيرة النبويَّة، ولا بما جاء حول الإسراء والمعراج في الأحاديث النبويَّة الصحيحة، وما فيها من ذِكرٍ صريح لـ»فلسطين» ولـ»الشام»، وأن «المسجد الأقصَى» هو في «بيت المَقْدِس»(4)، لا غير؟!
ولِمَ لَم يَعتدّ بما ورد في تلك المصادر، على سبيل المثال، من أنه حين كذَّبت قُريشٌ محمّدًا، مُثِّل له بيت المَقْدِس، الذي يعرفونه من خلال أسفار تجارتهم في الصيف إلى فلسطين، فوصفه لهم كأنه يراه؟ وهي نصوص مشهورة مسرودة بين يدَي القارئ في تلك الكتب، ولا داعي للتذكير بها هنا.(5)
أم هو الانتقاء من قِبَل المؤلِّف؟
وأمَّا ما يتعلَّق بقداسة (بيت المَقْدِس) في فلسطين، واستعمال تعبير «بيت المَقْدِس» عند العرب، منذ ما قبل الإسلام، ثمّ استعمال «المسجد الأقصَى» منذ (سورة الإسراء)- في إشارات صريحة إلى المكان المعروف في فلسطين، تدحض أيّ شكّ في أن ذلك المكان كان هو المقصود في «القرآن الكريم»، وفي الحديث النبوي، وفي التراث العربي والإسلامي- فنسوق من أدلّته ما يأتي:
1- لقد كان اسم (أورشليم) أو (بيت المَقْدِس) في فلسطين معروفًا باسمه هذا لدى العرب قبل الإسلام، بوصفه مركز الدِّيانات الكتابيَّة، كما كان ذلك إرثًا موغِلًا في التاريخ لدى اليهود والنصارى. وقد كان اسم أورشليم موجودًا قبل مجيء (إبراهيم الخليل) إلى أرض (كنعان). كما وردَ اسم مدينة أورشليم في رسائل الكنعانيِّين الفلسطينيِّين إلى الفراعنة في مِصْر، خلال الألف الثاني قبل الميلاد، بقلم (عبد يحيبا)، حاكم أورشليم في فلسطين، بلفظ: «أوروسالم». وتعود تلك الرسائل إلى ما قبل عام 1336ق.م.(6) وكذا ورد اسم أورشليم في نقوش الإمبراطور الآشوري (سنحاريب، 681- 705ق.م)، بلفظ: «أوروسليمو». ووصف المدينة بـ»القُدْس» قديم جِدًّا أيضًا، يشير إليه المؤرخ الإغريقي (هيرودوت، -425ق.م)، بلفظ «قديتس»، وقيل إنه محرَّف من النطق الآرامي «قديشتا».(7) ولن نستشهد هنا بورود «مدينة القُدْس» في «التوراة»- كما في «سِفر إشعيا»: «الْبَسِي ثِيَابَ جَمَالِكِ يَا أُورُشَ لِيمُ، الْمَدِينَةُ الْمُقَدَّسَةُ»(8)، أو»سِفر نحميا»: «جَمِيعُ اللاَّوِيِّينَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ مِئَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ»(9)- لأن (أحمد داوود) سيقول لنا ببساطة إن هذا كله إشارة إلى كهفٍ ما في بلاد غامد!
إن الإشارات التاريخيَّة إلى مدينة أورشليم في مكانها المخصوص من فلسطين، ثمَّ وصفها بـ»القُدْس»، لا يدعان مندوحة لشاكٍّ في قدسيّة المدينة، أو زاعمٍ أنها كانت في بلاد غامد أو غير بلاد غامد.
2- حين نعود إلى أدب العرب قبل الإسلام ماذا نجد؟ نجد أن الشاعر الجاهلي (السموأل بن عادياء)(10)، اليهودي، المضروب بوفائه المَثَل، صاحب حِصن (الأبلق الفَرد)، في (تيماء)- وقد قيل إنه من نسل (هارون بن عمران) أخي (موسى)- قد سمَّى تلك المدينة الفلسطينيَّة باسمها: «القُدْس»، في قصيدة منسوبة إليه، منها:
فَهَذا خَـليلٌ صَـيَّرَ الناسَ حَولَهُ
رَياحـينَ جَنَّاتِ الغُصونِ الذَّوابِلِ
وهَـذا ذَبيـحٌ قَدْ فَـداهُ بِكَـبْـشِـه
بَـراهُ بَديهًـا لا نِتـاجَ الثَّياتـِلِ
وهَذا رَئـيسٌ مُجـتَبىً ثَـمَّ صَفـوُهُ
وسَمَّاهُ (إِسرائـيلَ) بكـرَ الأَوائِـلِ
ومِن نَسلِهِ السَّامي أَبو الفَضلِ (يوسُفُ) [م] الَّذي أَشبَعَ الأَسباطَ قَمحَ السَّنابِلِ
وصارَ بِـ(مِصْـرٍ) بَعدَ فِرعَـونَ أَمرُهُ
بِتَعـبيرِ أَحـلامٍ لِحَـلِّ المَشاكِـلِ
أَلَسـنا بَـني مِصْـرَ المُنَكَّلَـةِ الَّتي
لَنا ضُرِبَت مِصْرٌ بِعَـشرِ مَناكِـلِ؟
أَلَسنا بَني البَحـرِ المُغَرِّقِ والَّذي
لَنا غُـرِّقَ الفِرعَونُ يَومَ التَّحامُلِ؟
أَلَسنا بَني (القُدْسِ) الَّذي نُصِبَت لَهُم
غَمامٌ تَقيهِمْ في جَميعِ المَراحِـلِ؟
أَلَسنا بَني السَّلْوَى مَعَ المَنِّ والَّذي
لَهُم فَجَّرَ الصَّوَّانُ عَذْبَ المَناهِلِ؟
أَلَسنا بَني (الطُّوْرِ) المُقَدَّسِ والَّذي
تَدَخـدَخَ لِلجَـبَّـارِ يَـومَ الزَّلازِلِ؟
فقائل هذه الأبيات (عربيّ، جاهليّ، يهوديّ)، ينطق بثقافةٍ سائدةٍ في زمنه، تمتح من ماضٍ سحيق، لا يصحّ الاستخفاف بما تحمله من إشارات تاريخيَّة. وكان المستشرق الألماني (هرشفلد) أوّل من نشر هذه القصيدة في مجلّة «المشرق، 9: 482»؛ إذ وجدها في مخطوطات مكتوبة بالعِبريَّة. ثمَّ نشرها بالعربيَّة المستشرق الإنجليزي (مرجليوث) في «المجلَّة الآسيويَّة، نيسان 1906، ص363». ونقلها عنه (الأب لويس شيخو)، في «المشرق، 9: 674». وعُثِرَ منها على نُسخٍ أخرى، منسوبة إلى (السموأل القُرَظي)، نسبةً إلى (بني قُريضة).(11) ولا غرو؛ فإن «القُدْس» لفظٌ واردٌ في «التوراة» إشارة إلى (مدينة القُدْس)، في مِثل ترنيمة (موسى) و(بني إسرائيل) ابتهاجًا بالخروج من (مِصْر): «تَهْدِيهِ بِقُوَّتِكَ إِلَى مَسْكَنِ قُدْسِكَ» (12).
ولا يعنينا أن تكون القصيدة منحولة للسموأل أو غير منحولة؛ لأن مَن ينحل فإنما ينحل وَفق تراثٍ متداولٍ، وثقافةٍ متوارثة. وما تضمّنه النصّ من إشارات مكانيَّة، سواء أكان قائل القصيدة السموأل أو نُسبت إليه قبيل الإسلام أو في صدره، دالٌّ على خلاف ما يذهب إليه هؤلاء المؤرخون الساعون إلى نقل تاريخ بني إسرائيل من (العراق) و(الشام) و(مِصْر) إلى (جزيرة العرب).
ثمَّ سوف نكتشف في المقال الآتي أن الإشارات إلى «بيت المَقْدِس» واردة في أدب صدر الإسلام، والعصر الأُموي، وأن إضافة بيت (إيليا) إلى «المَقْدِس» تَرِد في ما لا يُحصى من أُمَّهات الروايات والكتابات والكُتب الأُولَى من التراث الإسلامي. وبعدئذٍ سنجد أن إطلاق «المسجد الأقصَى» على مسجد بيت المَقْدِس ليس تعبيرًا انفرد به «القرآن»، بل قد ورد بجلاء في شِعر بعض الشعراء في الصدر الأوّل للإسلام، من صحابة وغير صحابة.
** ** **
(1) وهذا هو كلام المؤرِّخ الصهيوني (مردخاي قيدار Mordechai Kedar)، الأستاذ بجامعة (بار إيلان) في الكيان المحتلّ، والباحث في (مركز بيجن- السادات للدراسات الاستراتيجيَّة!). شاهد قوله المبثوث على موقع «اليوتيوب»، في 27 أغسطس 2008: https://www.youtube.com/watch?v=6VwQg3JhA7g
فواضح هنا أننا أمام جوقة من المؤرِّخين اليهود والمؤرِّخين العرب، يَتبارون في ترديد هذا النشيد الهزلي. وقائد الأوركسترا (المايسترو) معروف الهويَّة، يُدير هذا العزف الشجيّ على أشلاء الوطن العربي منذ سنين.
(2) البخاري، (1993)، صحيح البخاري، عناية: مصطفى ديب البُغا (دمشق- بيروت: دار ابن كثير- اليمامة)، 1: 168 [الحديث427].
(3) عَرَج يعرُج عُروجًا ومَعْرَجًا: ارتفعَ وعلا. والمِعْراج: شِبْه سُ لَّم. جمعه: مَعارِج ومَعاريج. (انظر: الجوهري، الصحاح؛ الأزهري، التهذيب؛ ابن منظور، لسان العرب، (عرج)). فالإسراء إلى (بيت المَقْدِس)، والمِعراج إلى السماء، كما ورد في «السيرة النبويَّة»: «...سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: لمـَّا فرغتُ ممّا كان في (بيت المَقْدِس)، أُتِـيَ بالمعراج، ولم أر شيئًا قط أحسن منه، وهو الذي يمدّ إليه ميتكم عينيه إذا حُضِر فأصعدني صاحبي فيه.» (ابن هشام، (1955)، السيرة النبويَّة، تحقيق: مصطفى السقا؛ إبراهيم الإبياري؛ عبدالحفيظ شلبي (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي)، 1: 403).
(4) من مراجع لا حصر لها، انظر، مثلًا، تفسير الآيات، والأحاديث التي وردت في شأن الإسراء: (الطبري، (2001)، تفسير الطَّـبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي (القاهرة: دار هجر)، (سورة الإسراء)).
(5) في شأن الإسراء المعراج، يمكن أن يُراجَع أيضًا: (القُشَيري، أبو القاسم عبدالكريم بن هوازن، -465هـ= 1072م، (1964)، كتاب المعراج، تحقيق: علي حسن عبدالقادر، ويليه «معراج أبي يزيد البسطامي»، لأبي القاسم العارف، تحقيق: نيكلسون (باريس: دار بيبليون )).
(6) انظر: ظاظا، حسن، (1970)، القدس مدينة الله أم مدينة داوود؟!، (الإسكندرية: جامعة الإسكندرية)، 17- 18.
(7) انظر: م.ن، 7- 8. (8) الإصحاح 52: 1. (9) الإصحاح 11: 18.
(10) انظر: (د.ت)، ديوانا عروة بن الورد والسموأل، باعتناء: كرم البستاني وعيسى سابا (بيروت: دار صادر)، 101- 102.
(11) انظر: م.ن، 100. (12) سِفر الخروج، 15: 13.