في ثمانينيات القرن الهجري الذي فات، وتحديداً عام 1388هـ - 1968م، جئت المملكة متعاقدا للتدريس في إحدى مدارس مدينة (عنيزة) هي (متوسطة فلسطين) وكانت مدة عقدي ذاك خمس سنين دراسية، انتهت مع نهاية العام الدراسي 1393هـ، وتهيأت حينئذ لمغادرة المملكة نهائياً، متمنياً العودة إليها فيما بعد!(1)
لم يكن فراقي (عنيزة) أو (نجداً) أوالمملكة عموماً بعد تلك الإقامة الطويلة والسعيدة بالأمر الهين، إذ صارت لي فيها ذكريات طيبة مع أصحاب طيبين وزملاء أعزة أوفياء، حيث ظلت تلك الذكريات ماثلة على البال لا تكاد تفارقه، والتي تمثلتها في إحدى قصائدي حين قلت:
إذا صحوت فبالي لا تفارقه
وإن غفوت تراءت لي مع الوسن(2)
إن رف سرب القطايهف الفؤاد لها
وإن ترنم حادي العيس يفتتن
ثم قلت بعد ذلك:
إن يأت غيري لبنت الكرم يخطبها
فما فعلت، فطيب الروض يسعدني
وما عجبت لمرأى التبر من ألقٍ
لكن مرأى رجال البيد يعجبني
وما أنست لميل الغيد في خفر
لكن ميل غصون البان يؤنسي
وما طربت لصوت قط في سمر
كما طربت لورقاءٍ على فنن
فإن صبوت إلى نجدٍ فلي سبب
فنجد عندي كما الجنات في عدن
هذه هي خلاصة مشاعري التي كانت تساورني قبيل مغادرتي (عنيزة) حين خرجت في آخر أمسية لي فيها إلى برها الجميل الذي اعتدت أن أتجول في مرابعه، وأرتاد غدرانه ورياضه وأوديته في أمسيات ربيعه من كل عام، فقصدت مكاني المفضل على ضفاف وادٍ كبير، وجلست قرب شجيراته الباسقة التي نمت وسط غدرانه في كل ناحية من مجراه الواسع، والتي تضج أغصانها الوارفة بتغاريد الطيور وزقزقات البلابل والعصافير، وقد بدأت تعود مسرعة تسابق ظلام الليل قبل انتشاره لتلجأ إلى أحضان أعشاشها، ولتسبح بحمد ربها قبل أن تنام!
واغتنمت فرصة هدوء المكان بعد نوم الطيور، حين ساده سكون تام لا تسمع فيه غير صوت خرير ماء الغدير في مجرى الشعيب والذي تخلف عن مطرة ربيعية متأخرة، وسوى صوت حفيف ووشوشة أوراق وأغصان الشجر، وهفيف نسمات الليل الخفيف الذي يداعبها حين مروره من خلال الأغصان الوارفة، يحركها ويمرجحها، وساكنوها الصغار نائمون وهم يحلمون بيوم غدٍ مشرق سعيد!
أقول اغتنمت فرصة هدوء المكان بعد نوم ساكنيه، وبدأت أنظم شيئاً من قصيدتي التي نظمت منها أبياتها الأربعة الأولى، والتي ودعت فيها أصحابي الغائبين والبدر الغائب مثلهم، والأنس الذي غاب معهم، وشكوت الزمان وتصاريفه، والأيام وتقلباتها، وصرت كلما أنجزت نظم بيتٍ منها: أعود فأردده بصوت مسموع، فتردد صداه معي جهات الوادي الأربع، ويبدو أن إحدى ظباء المكان سمعني، فرأيتها تغادره وتقف غير بعيدة مني، وهي تنظر إلى جهة مصدر الصوت، ثم أقبلت متجهة إلي بحذر، ثم اطمأنت فاقتربت، وبعد السلام دخلت معي في حوارٍ شعري، تقرؤونه في قصيدتي بعد قليل، إن تفضلت عليها (الثقافية) بالنشر!
إن الحوار الذي جرى مع (ظبية الوادي) لم يكن مخططاً له من قبل، كما لم يكن في نيتي التوقف عن إتمام نظم باقي أبيات القصيدة، بعد نظمي الأبيات الأربعة الأولى منها، وبنفس موضوعها المخطط له سلفاً، إلا أن ظهور الظبية المفاجئ غير موضوع الحوار، واتجه به وجهة أخرى مغايرة، حيث اقتصر وداع الأصحاب، والأسف على فراقهم فيه على الأبيات الأربعة الأولى من القصيدة، كما خلا الحوار فيها من شكوى الزمان وتقلبات أحواله، فأسبغ بدلاً من ذلك كله، مزيداً من الثناء والإشادة بـ(نجدٍ) الحاضنة لـ(عنيزة) وشقيقاتها مدن منطقة القصيم، والتي لا شك تنسحب تلك الإشادة وذلك الثناء على شقيقاتها الأخرى من مناطق ومدن مملكتنا الحبيبة المحروسة بالله سبحانه، والمباركة بالحرمين الشريفين، والتي أضفى الحوار في القصيدة عليها من الإشادة والثناء ما تستحقه مع (نجد) و(القصيم) سائر مناطق ومدن كيانها العظيم المملكة، الجديدة مع مواطنيها كافة بكل حب وثناء وتقدير! وإليكم فيما يلي قصيدتي، تروي لكم حكايتها شعراً:
حوار مع (ظبية الوادي في (عنيزة)!
شعر: أحمد بن عثمان البسام
يا بدر غبت كما الأصحاب قد غابوا
وأنت والصحب والإيناس أحباب
الصحب غابوا، فغاب الأنس بعدهمو
وأنت غبت، فمن للأنس جلاب؟
لا تعجبن إذا زمانك قد جفا
فالدهر يا بدر، للأحوال قلاب
أو تفرحنّ، وإن تبسم أو صفا
صفو الزمان بريقه خلاب
***
سمعت قصيدي في عنيزة ظبية
وبرفقتي أحد الصحاب.. كتاب
فرنت إليَّ، فأقبلت وتبسمت
ومع المساء نسيمه ينساب
وتلفتت عند الغدير فسلمت
ومن القطا مرت بنا أسراب
وتساءلت: من ذا الفتى؟ فأجبتها:
كلف بنجدك.. سائح جوّاب
فسلي رباها والجبال وسهلها
وسلي ذراها، والسؤال يجاب
وسلي رمالك والنضار نظيرها
وسلي النخيل فتهمس الأعناب
الروض حولك بالشذى متضوع
والماء عندك في المذاق رضاب
قالت: رويدك! قد عرفتك شاعر
حلو القصيد وفي البيان شهاب!
فقلت: عفوك! ما البيان بغاية
عندي، ولا أنا للثنا طلاب
لكن شعري للضمير معبر
والشعر إن كذب الضمير يعاب
أحببت نجدك باديها وحاضرها
حبي لنجد له أصل وأسباب
نجد مباهج أرواح وافئدة
نجد صفاء وأطياف وأطياب
نجد سلام وأشواق وأخيلة
نجد إباء وأمجاد وأنجـاب
قالت:صدقت فما والله من أحدٍ
إلا ويعرف نجدنا ويهــاب
زانت مرابعها، وطاب هواؤها
ولذ مطعمها، وساغ شراب
تزهو بباهرة الضياء سماؤها
ويجود بالعفر الطهور تراب
أمنت كواسرها الطيور وأصبحت
تلهو مع الحمل الوديع ذئاب
لكن.. بربك.. خبرني.. أمغترب؟
إن الغريب عن الأوطان هياب!
وجه..كأنك في السمات من الحمى!
وكذا لسانك والحجى وثياب
قلت: الحقيقة يا أخية، إننا
في حكم شرع الورى لا الدين أغراب(3)
لست الغريب على نجد وساكنها
فنجد أهل وإخوان وأتراب
لست الغريب، فمن نجد أروقتنا
بل في جوارك أصهار وأنساب
لست الغريب، ففي نجد رفات أبٍ
إذ في (أشيقر) أرحام وأصلاب
وفي (الرياض) عمومة وخؤولة
بل في عنيزة دار الجود، طلاب
***
هتفت غزالته، القصيم، ورجعت
في (الوشم) بيد، صوتها وهضاب
راحت تردد، من وجد بها، مثلاً
تعي مراميه أفهام وألباب
ليس الغريب الذي شطّت منازله
بل الغريب الذي في الدار يرتاب!
فرب قاصٍ بحب الدار منشغل
وربَّ دانٍ بدعوى الحب كذاب!
** ** **
(1-3) يوم نظمت قصيدتي هذه في (عنيزة) عام 1393هـ لم أكن وقتها قد حظيت بعد بشرف جنسيتي العربية السعودية، أما اليوم فإنني وعائلتي نرفل سعداء في ثوبها الزاهي القشيب منذ عام 1401هـ، ولله الحمد.
(2) هذان البيتان المقصود بهما (عنيزة).
أحمد بن عثمان البسام - عنيزة 1393هـ