زكية إبراهيم الحجي
عندما لا نعي أبعاد المستقبل وندرك طبيعة سنن التغيير والتحولات الإنسانية ونُهمِل التعامل مع تحدياته.. لا نستطيع أن نُعدَّ أجيالاً قادرة على التفاعل مع هذا المستقبل ومواجهة تحدياته.. فالحياة لا تتقهقر إلى الوراء ولا تلَذُّ لها الإقامة في منزل الأمس
والواقع الذي يعيشه أبناء هذا العصر يختلف عن الواقع الذي عرفه وعاش تفاصيله الآباء والأجداد.. ولكل عصر حلاوته وجماله وعاداته وتقاليده.. ولكل عصر أيضاً إيجابياته وسلبياته والأجيال بتعاقبها هي من تصنع ذلك.
زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون.. مسافات زمنية خلّدت بصمات أجيال متعاقبة بإيقاع حياة مختلف ولن ينتهي بتقادم الزمن، بل سيبقى صورة تواصل وتفاعل وتكامل أفرزته حمأة الجدليات وتباين الفجوات بين الأجيال المتعاقبة.. هكذا هي شجرة الحياة لا تقوم وتستوي على جذعها إلا بالآباء والأجداد وبالأبناء والأحفاد.. نُسْغٌ صاعد وآخر نازل وتستمر الحياة.
أنت من جيل وأنا من جيل لذلك لن تفهمني.. عبارة تتردد على ألسنة الأبناء عندما يحتدم النقاش بينهم وبين والديهم.. وبالمقابل نحن كثيراً ما نردد في أحاديثنا عبارة صراع الأجيال للدلالة على العلاقة المتناقضة بين الآباء والأبناء.. فهل يوجد حقيقة ما يُسمى بصراع الأجيال.. أم أننا نعيش تناقضات بين عصرين وجيلين وفكرين وثقافتين من خلاله يحاول الآباء تطبيق أفكارهم ومعتقداتهم على أبناء يعيشون عالماً غير عالم آبائهم وبالتالي فعدم تطبيقها يُعتبر تمرداً وخروجاً عن الطاعة.. وهل يطلق على هذه الظاهرة الشائعة صراع.. أم هي اختلاف بين جيلين في أسلوب العيش وأنماط التفكير وتفاوت في وجهات النظر وليس خلافاً يُفضي إلى صراع وشقاق قد يؤدي إلى عناد وتمرد.. وما بين الاختلاف والخلاف بون شاسع، فالأول غالباً ما يستند إلى دليل، أما الثاني فناتج عن هوى.
إن العلاقة القائمة بين الأجيال هي علاقة حوار وليست علاقة صراع.. إلا أنه وفي كثير من الأحيان خصوصاً عندما يحتدم النقاش يدفع أحد الطرفين ذلك الحوار إلى طريق مسدود فتبدو علاقة الحوار وكأنها صراع وليست مجرد اختلاف بين جيلين في المفهوم العام لنمط الحياة المتغير من عصر لآخر، لهذا فالفجوة العمرية تُعتبر أكثر الفجوات تأسيساً للاختلافات اللاحقة.. وبقدر ما يبتعد جيل الآباء زمنياً عن جيل الأبناء تتسع الفجوات الأخرى وتضيق مساحات الالتقاء الفكري والثقافي.
إن أي فجوة قائمة بين جيلين أو ما يُسميه البعض بصراع الأجيال ظاهرة طبيعية.. مصدرها تطور متلاحق وتغيرات سريعة في العناصر المادية والمعنوية وما تعكسه من مؤثرات في الأنماط الثقافية والاجتماعية وفرتها وسائل الانفتاح الفضائي والإعلامي الأمر الذي أدى إلى الانشغال المفرط بوسائل التكنولوجيا حتى احتلت بإيجابياتها وسلبياتها السطر الأول من قاموس العلاقات الأسرية.
إن الفروق بين الأجيال أمر لا يحتاج إلى جدال، والاختلاف بين جيلين أمر طبيعي كونه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع وتكويناته المختلفة، لذا ليس غريباً أن يأتي ضمن سياق التطور الاجتماعي العام شريطة ألا يتحول إلى نوع من الصراع والتنافر الذي ترفضه القيم والمبادئ والأخلاق الإنسانية الراقية.. بمعنى أن يكون هذا الاختلاف المسمى ظلماً بصراع الأجيال.. وجهاً آخر لصورة التفاعل التواصلي التكاملي بين الأجيال المتعاقبة.