هدى بنت فهد المعجل
لم أنتهِ من قراءة الرواية الموسومة بـ(طفل الرمال) للروائي المغربي (الطاهر بن جلّون) حينما أخذت في الكتابة في شأن فكرتها المحرضة، والمتفقة مع نقاط عدة، نراها حية في مجتمعنا، وإن تباينت الصور.
رجل الرواية (أحمد) ابتُلي بإنجاب الإناث دون الذكور، حتى أصبح لديه سبع إناث، وحُرم من ذكر واحد يحمل اسمه، ويصبح له في ميراث أبيه مثل حظ الأنثيين، فكان أن فكر الرجل (الأب) بفكرة، تنتشله من شماتة إخوته واستهزاء مجتمعه، فكرة جانبها العقل؛ لذا فقد سيّجها بسياج منيع، لا يمكّن أحدًا من الاطلاع عليها سواه، وزوجته، و(للا راضية) القابلة العجوز التي (لن تعمر سوى عام أو عامين.. ثم إنه سينفحها بالمال الكافي لكي تصون السر)، وسبق أن فاتحها بالأمر، وقالت له إن هذه الفكرة خطرت بذهنها. وقد تظنون للوهلة الأولى أنه عند وضع زوجته المولود الثامن وتكون أنثى أنه ستستبدل ساعة الوضع بمولود ذكر.. ولكن الأمر ليس هكذا على الإطلاق..!!
حملت الزوجة، ووضعت المولود، وكانت أنثى أيضًا.. بيد أن (للا راضية) أطلقت صرخة امتزجت فيها البهجة بـ(الزغرودة)، ثم رددت حتى انبهر نفسها: إنه رجل، رجل، رجل.. لأن هناك جمعًا غفيرًا من الأهل والجيران في الدار ينتظرون الخبر!! لف المولود بـ(أقمطة)، ولا مجال لنزعها عنه حتى لا تنكشف أعضاؤه، ويفتضح أمرهم..!! في أذهان الجميع هو ذكر، ولا يعلم السر سوى ثلاثة..!!
تصرُّف غير مستوعب، ولكن الأنثى - الذكر عاش الازدواجية، وعانى أو عانت منها.
وأنا أقرأ تداعيات الرواية تمكّن الراوي من إيهامي بأنه ذكر.
لفافة حول الصدر لفت بشدة، حالت دون بروز الصدر عند البلوغ، حلق مستمر للشارب حتى يبدو بوضوح، حلق دائم لشعر الرأس.. استطاع الأب خداع الابن، وخداع نفسه بأنه ذكر؛ حتى لا يستمر الجميع في (الشمت) به وبإنجابه للإناث. الفكرة لا جديد أتت به إذا ما استرجعنا موقف العرب سابقًا من الإناث بدفنهن أحياء خشية الفقر والعار، لكنها هنا ترمز لحقيقة الإنسان عندما يود شيئًا ما ولا يتحقق له، فيوهم نفسه بالحصول عليه كمقولة (يكذب الكذبة ويصدقها)، ويمارس حياتها على أساس هذه الكذبة - الوهم.
قد يكون الفرد فقيرًا معدمًا غير قادر على السكنى في فيلا راقية من حُرّ ماله، أو ركوب أفخم السيارات؛ فيستدين؛ ليوفر له الفيلا والسيارة، ثم يوهم نفسه بأنه غني، ويخدع الجميع.. هو وَهْم ناتج من الشعور بالنقص مع الإحساس بالعجز.. فعدم القدرة على إنجاب الذكور، وضياع أمله في رجل يحمل اسمه، ولَّد لديه شعورًا بالنقص وإحساسًا بالعجز؛ فكان الوَهْم المنقذ من الضلال.
الطالبة الفاشلة تدرك عجزها في الوصول لمصاف الطالبات المتفوقات؛ فتعبث بشهادتها حين استلامها لها، وتزور درجات لم تحصل عليها؛ لتوهم والدَيْها ونفسها بامتيازها.
الخداع مولود الوَهْم لن يستمر.. فسينكشف أمر الجميع، الذكر - الأنثى، الفقير - المعدم، الطالبة الفاشلة.. فنصل إلى أن دافعهم نحو ما ارتكبوه مرض نفسي، أو عقدة مركّب النقص مع عدم التسليم بالقضاء والقدر. وبالإمكان تحقق مطالبه دون اللجوء لابتكار كذبة وتصديقها ليسهل عليه أمر تصديق الآخرين لها.. لأن الكاذب يفضح، ارتباكه، كذبه.. فعليه أن يدرب نفسه على كذبته، ويقنعها بصدقها، ثم ينتقل لمرحلة أخرى، هي إقناع المجتمع بها..!! ولكن هل سيطول أمد الكذبة؟؟!!
مطبٌّ نفسي من بين مطبات عدة نعاني منها، ولا سبيل لإيجاد حل إذا ما علمنا أن كثيرًا من أمراض البشر نفسية طالما أنه لا وجود لأثر لها في البدن أو في التحاليل المخبرية أو الأشعة المقطعية وغير المقطعية، ويُرى أنه ضرب من الجنون رغم إقرارنا به كعلم يدرّس، وتُفسح كتبه للطباعة والنشر، دون السماح للقدمَيْن بولوج عيادات الطب النفسي. فهل يتم تفعيل دور تلك العيادات، والنظر في شأن مقرراتنا الدراسية؛ ليصبح للطب النفسي، وحاجة المجتمع له، والنظرة القاصرة نحوه، منهج يدرج ضمن مناهج الطلبة والطالبات في الخطط المستقبلية القادمة..؟!!