ستظل حياة الأمير سعود الفيصل، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه، صفحات مضيئة وأيام ولحظات محفورة ومستقرة في أعماق قلبي منذ بدأت عملي الدبلوماسي بوزارة الخارجية. فقد كان رحمه الله مدرسة متفردة تجمع بين جنباتها الأخلاق العالية والعلم الواسع والدبلوماسية الحكيمة؛ ومثالاً للعمل بكفاءة لا مثيل لها ونبل لا نظير له، مع امتلاكه الجرأة والحكمة والمنطق والحجة التي جعلت صوته مسموعاً ورأيه صائباً وموقفه سديدا. لقد حمل الراحل دبلوماسية المملكة طوال أربعين عاماً، تاركًا خلفه صرحاً ضخماً وآثار رحلة طويلة قضاها في رسم سياسة بلاده الخارجية، كما كان علامة فارقة في تاريخ الدبلوماسية العربية وفي التصدي لمختلف الأزمات التي واجهتها الدول العربية والإسلامية بحكمة مشهودة ومواقف حاسمة، فخلدته في ذاكرة الأمة أحد أبرز رجالها على مر العصور. إن الفترة الطويلة التي تولَّى فيها سموه منصب وزير الخارجية وعاصرته وشاهدته منذ التحاقي بالوزارة كانت فترة زاخرة مليئة بالكثير من المواقف والتعامل الإنساني مع جميع منتسبي وزارة الخارجية، وأضفت على العمل بالوزارة روحا من الحب والدفء والسلاسة التي كان له دورا مهما في النجاحات والإنجازات التي حققتها الدبلوماسية السعودية مع الدول في شتى بقاع العالم، وعلى المستوى الشخصي في علاقتي مع الراحل، كنت حريصا جدا على الاستماع إلى مداخلاته وأحاديثه ومفاوضاته في المئات من الاجتماعات والمؤتمرات الخليجية والدولية، تلك الاجتماعات التي سجَّل فيها حضوراً لافتاً ورصيداً دبلوماسياً وسياسياً ضخماً يصعب على غيره من وزراء خارجية العالم بأجمعه الوصول إليه. لقد سطَّر سموه سجلاً حافلاً بالمواقف السياسية المشرِّفة التي أبهرتني، كما أبهرت العالم لما اتسمت به من القوة والحكمة والذكاء الذي فاق التصور، حاملاً رسالة المملكة العربية السعودية وامته العربية والإسلامية للعالم، مدافعاً عن قضاياها ومواقفها بثقة ومرونة وقوة إن احتاج الموقف. سموه - يرحمه الله - لم يكن رجلا عادياً رحل عن الدنيا، أو وزيراً يذهب في تشكيل وزاري ليأتي غيره، إنه شخصية مختلفة، شخصية تُعدّ من أبرز الأسماء في تاريخ الدبلوماسية العربية والدولية، لم يهدأ ولم يتوقف عندما اشتدّ عليه المرض وأثقل كاهله، بل استمر متنقلاً في بقاع الأرض حاملاً وشارحاً سياسة وطنه ومبادئ ومصالح أمته العربية والإسلامية، لذلك ستبقى لدبلوماسيته وتواضعه وأخلاقه انبيلة حضورا مستمرا ومرجعا دائما لترتيب العلاقات الدولية والإقليمية بين الدول. كان تعيين سموه وزيراً للخارجية في وقت مهم وحسّاس جداً، حيث كانت بدايات استقلال إمارات الساحل العربي المتصالحة، والتي عرفت بعد ذلك بـ (الإمارات العربية المتحدة) والبحرين وقطر، المطلة جميعها على السواحل الجنوبية للخليج العربي، ودخولها كدول أعضاء في الأمم المتحدة والجامعة العربية والذي تواكب مع بدء الإعداد لتأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية ووضع نظامه الأساسي في ثمانينيات القرن الماضي بسبب مخاطر وتهديدات الحرب العراقية الإيرانية وتداعياتها الأمنية على دول المنطقة التي حتَّمت الحاجة إلى قيام كيان خليجي موحَّد يقف أمام المخاطر التي تهدد سيادته واستقلاله؛ خاصة بعد الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث غداة الانسحاب البريطاني، كان لسموه دور مهم جدا في الدفع بقيام مجلس التعاون، حيث كانت اجتماعات التأسيس والإعداد للنظام الأساسي تعقد في منزله حتى ساعات متأخرة، وكان سموه شعلة من النشاط والحكمة والرؤية الثاقبة في إدارة هذه الاجتماعات التي كان أبرز نتائجها الاتفاق على قيام مجلس التعاون الذي تم التوقيع على نظامه الأساسي في أبوظبي في عام (1981 ) م، واستمر سموه راعيا ومؤمنا بمسيرة مجلس التعاون ونجاحها على مدى الستة والثلاثين عاما الذي انعكس في مواقف كان هدفها التوصل إلى الحلول التوفيقية بين الدول الأعضاء بما يضمن تحقيق أهداف مجلس التعاون للوصول إلى التكامل والاتحاد الذي اقترحه المرحوم بإذن الله تعالى الملك عبدالله بن عبدالعزيز في إحدى قمم مجلس التعاون. وتظل مواقف سمو الأمير سعود الفيصل رحمه الله، تجاه القضايا العربية تاريخية وواضحة التأثير على سير الأحداث وتطوراتها في المنطقة العربية، ومن أبرزها الحرب العراقية الإيرانية، والغزو العراقي على الكويت، والحرب الأهلية في لبنان، واتفاق الطائف، والصراع العربي الاسرائيلي، والأزمة التي كادت أن تعصف بمجلس التعاون عام 2014م التي كان له فيها مواقف حاسمة أوقفت تداعياتها وساعدت على عودة المياه إلى مجاريها بين الدول الشقيقة اعضاء مجلس التعاون، إلا أن مواقفه مع دولة الكويت الشقيقة تظل متميزة وتعطي الدليل القاطع على عمق العلاقات الأخوية وتجذرها بين القيادتين والشعبين السعودي والكويتي والتي من الصعب محوها من ذاكرة الزمن وتاريخ العلاقات الوطيدة والخاصة بينه وبين صاحالسمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت الشقيقة عندما كان وزيرا للخارجية، خاصةً إبان الغزو العراقي الغاشم لدولة الكويت في عام 1990، فقد كان لسموه رحمه الله الدور الكبير والمؤثر في الحشد العربي والدولي لصالح دولة الكويت، خاض سموه معارك ومواقف سياسية كبيرة ممثلاً لبلاده ومدافعاً عن حقوقها، وعاصر وعايش تفاصيل كافة الأزمات والمشاكل العربية، ولديه أدق أسرار وخفايا العلاقات الخليجية الخليجية وقصص الصراع العربي العربي والصراع العربي الإسرائيلي، حيث لعب أدواراً تاريخية مهمة، وشارك في اتخاذ الكثير من القرارات المصيرية التي كان لها تأثيراً كبيراً على سياسة المملكة العربية السعودية الداخلية والخارجية وعلاقاتها مع الدول في كافة أنحاء العالم، فكان بحق أمير الدبلوماسية العربية وفارسها للاعتبارات التالية:
- قدرته في التحكم بأعصابه وسرعة بديهيته في كل الأوقات ومهما كانت الظروف والعمل في الإطار الذي حددته مرتكزات السياسة السعودية الخارجية التي كرسها سموه لخدمة المصالح العليا لبلاده، مما اعطى هذه السياسة بعدا عربيا وإسلاميا ودوليا فاعلا.
- الاختيار الصحيح والتسلسل الواضح لأفكاره والتوظيف الدّقيق والأداء الناجح لاستراتيجية الإقناع عند تناوله النقاش أو المداخلة في خطابه السياسي، وتحركه الدبلوماسي الذي يقوم أساساً على تجاربه العلمية والعملية والالتزام بفكرة التواصل الفكري بشأن القضايا التي يتحدث عنها إلى جانب روح المداعبة التي تضفي على النقاش جوا من البهجة والراحة.
- تراكم تجاربه عبر السنين ساعدة على إدارة علاقاته الخاصة والمتميزة بأربع ملوك أدار ونفذ معهم سياسة المملكة في كافة الأجواء المتقلبة التي مرت بالشرق الأوسط، لذلك فمهما تحدثنا عن سمو الأمير سعود الفيصل، يرحمه الله، فهو رجل لن يتكرر في تاريخ السياسة والدبلوماسية العربية والعالمية، فقد مثَّل الدبلوماسية السعودية بمنهجها وتراثها العربي والإسلامي الأصيل، وعبَّر عنها في العديد من المواقف والمساجلات والكلمات والخطب الحاسمة، أذكر منها عندما قرَّر رحمه الله سَحب اسم المملكة من قائمة المتحدثين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعدم إلقاء خطابها السنوي المعتاد في (سبتمبر 2013م)، ورفضه أن تكون السعودية ممثلاً للمجموعة العربية كعضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي وذلك في وقفة احتجاجية شجاعة وغير مسبوقة أرجعها لفشل الأمم المتحدة في تحقيق أهداف ميثاقها منذ سريانه في أكتوبر 1945م في الحفاظ على الأمن والسلام العالميين ومنع الحروب وإنهاء الصراعات، وعلى وجه التحديد فشلها في إيجاد حل لقضية العرب الأولى (فلسطين) التي مضى عليها أكثر من ستين عاماً، والأزمة السورية التي مازال شعبها يعاني من القتل والدمار، وغيرها من قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأمن الغذائي والبيئي وغيرها، هذا هو سعود الفيصل، فارس الدبلوماسية العربية الذي طلب إعفاءه من منصبه قبيل وفاته بعد مسيرة تاريخية ملؤها الشموخ والعزة والكرامة. لقد كان صوتاً من أهم الأصوات في الدبلوماسية العربية وصوتاً عالمياً تجاوز الحدود، صنع تاريخيا مجيدا ليس للمملكة العربية السعودية فقط، وإنما للأمة العربية والإسلامية، وترك مدرسة للدبلوماسية في العلاقات الدولية والتفاهم بين الامم والشعوب وتاركاً خلفه تاريخاً حافلاً بالإنجازات السياسية والدبلوماسية وعيوناً وقلوباً تحبه، وذكريات وابتسامات وتعليقات ومداعبات كانت تضفي الدفء والبساطة على الاجتماعات والمؤتمرات التي كانت تجمعني به في الخارجية أو الاجتماعات الخليجية بمجلس التعاون. والحقيقة أنه سوف يترك فراغاً كبيراً من الصعب على أحد أن يملؤه، فقد كان مؤمناً بأن كل ما حوله من أحداث وقضايا لا تحتمل التأجيل، وأن العمر يقاس بالدقائق وعقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء .
- عبدالله بن محمد الشمراني