د. جاسر الحربش
أستأذن القارئ الكريم في استغلال زاوية اليوم للتعبير عن مشاعري الخاصة تجاه راحل كبير فقدته قبل أيام، لم يكن يعرفه سوى أصدقاؤه وزملاؤه، لكن الكثيرين يعرفون الثمار الطيبة التي خلفها بعد رحيله. سوف أعرف به في السطور الأخيرة، ويكفي القول الآن إنه كان الأنبل والأصدق والأكرم بين كل من أحببت وعايشت وجربت، وقد عايشت وجربت وأحببت الكثيرين والحمد لله.
كان الراحل رحمه الله وحيد والدته في إحدى قرى القصيم التي لا تعرف سوى فلاحة الأرض بالوسائل البدائية آنذاك والفقر يخيم على الجميع. تعلم الطفل القراءة والكتابة على يد عمه ثم ارتحل عن والدته في طلب الرزق إلى المنطقة الشرقية وهو ابن الخامسة عشرة، تزيد أو تنقص سنة واحدة. هناك، ولأنه من القلائل الذين يعرفون شيئاً من القراءة والكتابة وجد عملاًً في شركة مكلفة بمد سكة الحديد بين الظهران والرياض، مهمته تسجيل أسماء العمال والتدقيق في ساعات عملهم ومكافآتهم الشحيحة، والتي كانت بمفاهيم ذلك الزمن كافية لتغطية متطلبات العيش له ولوالدته بما يرسله لها مع المسافرين إلى القرية على فترات متباعدة.
سمعت منه قصصاًً كثيرةً عن تجاربه، ومما قصه علي رحمه الله أن عمال السكة الحديد في ذلك الزمن البعيد كانوا يتنقلون بخيامهم وفرشهم وقدورهم من المكان الذي يصل إليه خط القطار إلى مكان المرحلة التالية، في صحراء جرداء تعصف بها الرياح والرمال وتتكاثر فيها الثعابين والعقارب التي يجدونها ساعات الفجر في خيامهم وبين مراقدهم، تتسلل إليها بحثاًً عن الرزق والدفء، مثلها مثل عمال الشركة. ذات يوم، هكذا حدثني توقفت ناقة شاردة من قطيع لأحد الرعاة على جانب الخط الحديدي فأدركتها عربة القطار أثناء رحلتها التجريبية وقطعت أحد ساقيها، فانكفأت الناقة على جنبها خارج الخط تنزف وتطلق رغاء يقطع القلوب. تسارع العمال نحوها وأبعدوها عن خط القطار، وسرعان ما وصل صاحبها وبدأت المساومة بينه وبين العمال، بكم يشترونها قبل أن تموت. طلب الرجل مبلغاًً كبيراًً لا قبل لهم به، فقال له أحدهم نعطيك بها ثمن اللحم عند القصاب، وإلا حرجت فخسرتها. انصرف عنهم صاحب الناقة مغاضباًً، فوضع صاحب الرأي إصبعه على شفتيه أن اصمتوا سوف يعود سريعاًً، وهذا ما حدث. فرح العمال بشراء الناقة الجريحة وذكوها قبل أن تحرج. يقول الراحل تغمده الله بواسع رحمته أنه لم تمر علينا فترة رغيدة وسعيدة في تلك الصحراء مثل مرحلة الناقة. شمرنا عن سواعدنا وسلخناها وفصلنا لحمها وشحمها عن عظامها ووزعنا المهمات على الخيام. صهرنا الشحم فملأنا منه عدة تنكات ودكاًً ومخلوعاً، واستمتعنا عدة شهور باللحم والدهن حتى بانت علينا آثار النعمة في الوجوه والبطون والأطراف، ثم أكمل القصة مرتاحاً بأن شركة السكة الحديد عوضت البدوي عن ناقته بمقتضى حكم شرعي مصدق من أمير المنطقة بمبلغ مجز من الريالات الفضية.
بعد اكتمال خط الحديد إلى الرياض تحول الراحل إلى العمل كمسجل ورديات عند شركة أمريكية من فروع شركة بكتل العملاقة، كانت تبني المطار الأول في مدينة الرياض (مشروع كوفينكو لمن يتذكر من المخضرمين) وسكن في حي العمال هناك. سرعان ما اقتنع بأنه يستطيع تحقيق ما هو أفضل من كاتب شركة فبدأ يدرس ليلاًً في المدارس الشرعية، سنتان وثلاث بسنة واحدة إلى أن التحق بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وحصل على شهادة التخرج في العلوم الشرعية. بسبب حاجة الدولة الماسة آنذاك إلى القضاة عرض وألح عليه أن يتعين قاضياً في إحدى القرى، فرفض بحجة الخوف من عدم القدرة على العدل بين المتخاصمين. استقرت به الحياة لاحقاً في التعليم الشرعي بمدينة عفيف ثم وكيلاًً للمدرسة الثانوية في الرس حتى تقاعد قبل أكثر من عشرين سنة. الأهم في سيرة كفاحه أنه رحمه الله بما تحقق له من الطموح نقل البقية من طموحاته إلى أبنائه وبناته. خلف من الأبناء طبيباً بدرجة بروفيسور استشاري في طب الأطفال وأمراض الغدد الصماء واضطرابات النمو الطفولي، وابناًً آخر يحمل شهادة الدكتوراه الأمريكية في علوم الحاسب الآلي، وثالثاًً يعمل أستاذاً لعلوم الحاسب الآلي في كلية التقنية، وثلاث فتيات مدرسات في تعليم البنات، وقد توفي له ابن لامع كان يحمل شهادة عالية في الهندسة المدنية أسأل الله أن يجمعهما في جنات النعيم.
الآن أفصح لكم عن اسم الفقيد العزيز، إنه أخي سليمان بن عبدالله الحربش والد البروفيسور عبدالله والدكتور جاسر والأستاذ خالد، وكلهم أصبحوا بحمد الله من شخصيات المجتمع المعروفة. لم أجرؤ على الكتابة في هذه الزاوية عن كفاحه وطموحه لأنه أخي، بل لأنه كان قدوة لي شخصياً ومثالاً مشرقاًً للبدايات الصعبة والصبر والكفاح المكللة بالنجاح، تلك التجارب الراقية لأجيال الآباء والأجداد التي يجب أن تستحضرها أجيال الشباب وتدرس لهم كأمثلة في مراحل التعليم الأولى.
رحم الله موتانا وموتاكم وجزاهم عنا خير الجزاء لقاء ما صبروا وسددوا ومهدوا لمستقبل الأجيال اللاحقة.