د. جاسر الحربش
لي صديق ودود يقول لي لا تكتب في السياسة، مقالاتك عموماً لا بأس بها ما عدا السياسية. من أسباب معانداته معي أنه مثالي في إِنسانيته، وأنا لي اشتراطاتي بالواقعية للالتزام بإِنسانيتي، بدون تفريط في واحدة على حساب الأخرى.
هذا الصديق المثالي لم يصدق إلا متأخراً وعن قناعة أن حزب الله اللبناني كذب علينا طويلاً وخان الأمانة لأمته وتاريخها إلى درجة الإيغال في العنصرية المذهبية والإجرام الدموي. مواصفات هذا الصديق الإِنسانية منعته من تصديق ما يرى ويسمع، إلى أن تكرر اعتراف الحزب بمرجعيته المذهبية والانتمائية الأجنبية وعندئذ تبرأ منه.
المعاندة الأخرى كونه لا يفرق بين مقال لتأكيد قناعتي الانتمائية لكل ما يخصني حضارياً كعربي بخيره وشره، فلا أقبل تقديم تنازلات طوعية مقابل معايرات انتهازية مختارة من الصفحات السوداء التي لا يخلو منها تاريخ أي أمة. العبرة عندي بعدد الصفحات السوداء مقابل البيضاء كتاريخ موثق ومتواتر في كل تواريخ الأمم، فإن عايرني أجنبي، مسلم أو غير مسلم، بما ينبشه على هواه من تاريخي فتحت له كتابه وأطلعته على آلاف الصفحات السوداء في تاريخ أمته. لذلك عندما ينصحني صديقي بتجنب الكتابة في السياسية أجيبه بأن ما أكتب ليس سياسة بمعنى الانتصار لحكومة ضد حكومة أو لمذهب ضد مذهب أو عرق ضد عرق. أكتب للتنوير الانتمائي الجامع، لوطن مقابل وطن ولدولة مقابل دولة وتاريخ مقابل تاريخ. لا يهمني رضى السياسة أو المذهب أو العرق، وإنما تهمني مناعة الوطن والكيان والتاريخ.
من هذا المنطلق لا أكتب هذه المرة أيضاً في السياسة ولو بدا المقال من عنوانه وكأنه سياسي. المقاصد في المقال هي ما قلته قبل قليل.
إنني أسأل، ماذا لو أن الرياض تقاعست مثل العواصم العربية الأخرى؟
منذ أن هدم الغزو الأمريكي - البريطاني البوابة العربية الشرقية تساقطت العواصم العربية واحدة بعد أخرى في حضن النظام الإيراني، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء فقدت مؤقتاً هوياتها العربية. في بغداد تنمرت الميليشيات المذهبية وقتلت واغتصبت ودمرت، وفي دمشق تنمر الشبيحة ونفس الميليشيات الإيرانية العراقية مع مرتزقة مستأجرين من باكستان وأفغانستان، بالإضافة بالطبع إلى أتباع حزب الله من اللبنانيين. في بيروت دخل السياسيون الممثلون لطوائفهم في تبادل مصالح مع سيدهم الجديد كعادتهم عبر التاريخ، وبعضهم آثر السلامة والتزم الصمت. في اليمن انسلخت عصابة مذهبية عن المذهب الزيدي العربي وأصبحت فجأة إيرانية وليست عربية اثني عشرية. هكذا أصبحت إيران على الحدود الجنوبية السعودية وفي الجزر والموانئ الساحلية والمضائق.
ماذا فعلت العواصم العربية الكبرى الأخرى، تلك التي في الجزء الإفريقي من العالم العربي، وماذا قدمته لمقاومة الاكتساح الإيراني؟ ألم تتقاعس وتعذرت بشؤونها الداخلية، وأحياناً صبت المزيد من المياه في الطوفان الإيراني بحجة الحريات الحزبية؟
البعض، وقد يكون صديقي منهم سوف يقذف في وجهي بتهمة إرهاب وجرائم داعش والقاعدة المحسوبة على العرب السنة. أطالبه بالجواب الشافي عن منابت داعش وتمويلها وتسليحها، وكيف وصلت لما وصلت إليه هناك، أي في العراق والشام التي تحكمها أمريكا وإيران، وهل للقاعدة وداعش قواعد في إيران أم ليس لها قواعد؟ أليست داعش والقاعدة في العراق والشام التي تحكمها أمريكا وإيران؟
الإدارة الأمريكية هدمت (وحينذاك سكتنا نحن أيضاً للأسف كما فعل الآخرون) بوابة السد عام 2003م، فأغرق الطوفان الإيراني كل ما أمامه حتى وصل إلى البحرين وضفاف الخليج العربي والجزء الجنوبي من جزيرة العرب. لم يكن الباقي سوى خطوة واحدة، هكذا اعتقد الحكم في إيران، ثم يكتمل إغراق الطوفان لكل العواصم العربية وللشعوب، والأنكى من ذلك إغراق التاريخ العربي في منابته الأولى.
الحمد لله، أخيراً أدركت الرياض مع شقيقاتها في مجلس التعاون أن الرهان على من اعتقدتهم أصدقاء قدامى خاسر وأنهم أعداء متربصون يلعبون بالعرب لعبة مصالح غير عادلة، وأنهم وضعوا رهانهم على الخانة الإيرانية. أول خط أحمر وضعته الرياض ضد الاختراق كان في البحرين، ثم في اليمن مدركة ضرورة تأمين عرب الشمال مستقبلاً قدر الإمكانيات والتطورات القادمة.
هذه ليست مقالة في السياسة بل طرح سؤال عربي شامل : ماذا كان يحصل لو أن الرياض تقاعست أمام الطوفان مثل العواصم الأخرى؟
يقال إن أول الغيث قطرة، واليمن أوشكت على العودة لتاريخها، وإيران لا بُدَّ أنها أوعزت لعملائها أن الزمان قد تغير.