د.عبد الرحمن الحبيب
سألت نفسي: ما الذي يمكن أن تقدمه كمشورة لوزير تعليم يعد الأكفأ نظرياً وتطبيقياً في المجال التربوي؟ كيف تقدم له نصيحة وأنت في أغلب مقالاتك عن إصلاح التعليم تستند على أفكاره المميزة.. فلا جديد لديك لتقدمه.. الأولى أن تلزم الصمت..
لكن فكرت بأن الذي يراقب المشهد ويراه من خارجه غير الذي يحركه ويعيش في معمعته.. فكرت أيضاً بأنه مهما وضع القيادي الإداري من خطط سليمة فثمة عراقيل قد يتسبب هو بها عن غير قصد.. فلا أخشى على وزير التربية والتعليم من الأخطاء الاعتيادية بل من ذكائه الحاد ومهارته الفائقة.. كيف؟
خلال السنة الفارطة ناقشت العديد من كبار الموظفين في القطاعات التي يرأسها وزير جديد يتميز بالذكاء الحاد والكفاءة العالية.. أكثر ما أدهشني تكرر شكوى مزدوجة بقلة مقابلة المسؤول الجديد لكبار المسؤولين، يقابلها حدة مركزية القرارات وفجائيتها.. إنهم لا يعرفون ما يريد، وهو لا يعرف ما يريدون! عذر الوزير الجديد كثرة انشغالاته وجسامة مسؤوليته؛ لكن لا يكفي أن تكون خطته الجديدة سليمة، ما لم يقتنع بها الذين سيطبقونها، ويناقشهم بها ويستمع لهم. ليس على الوزير الجديد الاقتناع بما يقولونه بل الاستماع لوجهات نظرهم وأخذها بالحسبان، ثم محاولة إقناعهم بقراراته الغريبة عليهم، فهم في المحصلة من سيطبقها.
تؤكد الدراسات الحديثة (موقع بيت كوم) ضرورة أن تكون المرحلة الأولى للمسؤول الجديد مخصصة لتعلّم تفاصيل الوظيفة الجديدة وطرح الأسئلة أكثر من الأجوبة.. الاستماع أكثر من الكلام.. وترك انطباعات إيجابية مع القائمين على العمل، وليس لإحداث تغييرات جذرية مفاجئة قبل معرفة تفاصيل الوضع عن كثب. فهو بحاجة أولاً إلى دعم ومشورة العاملين وكسب ثقتهم واحترامهم قبل كل عمل يقوم به. الغريب أن آخر الدراسات العلمية (برادبري، 2015) تشير إلى أن الشخص الذكي جداً قد يرتكب أخطاء لا يقع فيها الأشخاص العاديون، عندما ينتقل إلى قطاع جديد؛ وأن التفكير العقلاني والذكاء لا يميلان للسير معاً في اتجاه واحد في مجال الإدارة. فكيف تفسر الدراسات هذه المفارقة؟
كثير من الأذكياء اعتادوا منذ صغرهم على التفوق والمديح في المنزل، وفي المناسبات الاجتماعية.. ثم في المدرسة.. وبعد ذلك في بدايات عملهم تجد أنهم يلفتون الأنظار وينالون الثناء من رؤسائهم. هذه النوعية من الأذكياء اعتادوا أن يكونوا أصحاب الريادة في الأفكار وتقديم النصائح للآخرين، واقتنعوا باكتفائهم الذاتي عقلياً وبقدراتهم الذهنية فوق الآخرين. ذلك سيكون له نتائج محتملة من الأخطاء عندما يصبحون قادة إداريين، بعضها أخطاء عادية وبعضها كوارث إدارية.. سألخصها هنا حسب ما أوضحته الدراسات.
أولها، السرعة المفرطة في اتخاذ القرار مما يؤدي لارتكاب أخطاء في حل المشاكل أكثر من أخطاء المسؤول العادي الذي يتأنى في التفكير. كذلك، مركزية قراراته المعتمدة على ذهنه دون مشاركة الآخرين الذين قد لا يفهمون مقاصدها فيسيئون تنفيذها، فيتهمهم بالجهل والتقصير. يترافق مع ذلك صعوبة تقبل النصيحة والنقد من المحيطين به لأنه يراهم أقل ذكاء منه، مما يؤدي إلى ظهور علاقات مسمومة معهم على الصعيدين المهني والشخصي! وأخيراً، تهميش الآخرين.. فالمسؤول الجهبذ وحده هو الذي يفهم ويحل الأزمات، ويتحول كبار المسؤولين إلى مجرد متلقين للأوامر وتنفيذها دون تفكير، وبالتالي لن يكونوا مستعدين أبداً لتحمل المسؤولية ولا لحل المشاكل..
طبعاً ينبغي الحذر من التعميم، ولا أظن أن وزيرنا يمكن أن يقع فيها، لكنها منبهات لتحاشي أمثال تلك الأخطاء والعراقيل التي تواجه أي مؤسسة تريد التغيير. خلال دراساته الميدانية للسلوك أثناء تحول خطة المؤسسة، ابتكر المفكر كورت لوين «نظرية المجال» التي تدرس أنماط التفاعل بين الفرد وبيئته، وتسبر أغوار القوى المؤثرة أثناء التحول.. مميزاً بين قوتين متعارضتين: قوى مساعدة وأخرى معرقلة. وضع لوين نموذجاً للتغيير كمرشد لنجاحه لأية مؤسسة، تتمثل في ثلاث مراحل إجرائية. الأولى كسر الجمود عبر الاقتناع بضرورة التغيير. الثانية البدء بإجراء التغيير الذي سيمر بارتباك خلال تفكيك الأساليب القديمة. الثالثة تثبيت الوضع الجديد. نموذج لوين شهد نجاحاً ملموساً واستعانت به الحكومة الأمريكية، وأصبح مثالاً يحتذى للمؤسسات الأمريكية حتى يومنا هذا.
لو أردنا تطبيق نظرية المجال في إصلاح نظامنا التعليمي، يمكن بداية التمييز بين قوتين متعارضتين: قوى مساعدة وأخرى معرقلة. المساعدة هي أن هناك قناعة عامة بالحاجة لإصلاح نظام التعليم، وأن الوزير الحالي من أكفأ من يقوم بها؛ والمعرقلة هي أن ثمة قناعات خاصة ضد التطوير سواء كانت إيديولوجية أو بيروقراطية.
المرحلة الأولى للتحول تعد أصعبها، فالنفس البشرية تقاوم ما ألفته من روتين يومي، لذا فهي تتطلب حرصاً في التهيئة النفسية للعاملين. هذه التهيئة تتم عبر إيجاد مناخ ملائم للتغيير ليثق الموظفون والمدرسون بالتحول، وذلك عبر التواصل معهم في أجواء ودية، وإشعارهم بأهمية آرائهم مع إقناعهم بضرورة التغيير، وإشراكهم بفاعلية في النقاشات أثناء وضع خطة التحول ودعمهم نفسياً لإزالة توترهم..
في المرحلة الثانية تبتدئ إجراءات التحول، وهنا يتخوف الموظفون والمدرسون أثناء تطبيقهم للنظام الجديد من الفشل وما يتطلبه من مهارات جديدة. هنا، لا بد من تخفيف قلقهم بدعمهم وإعطائهم معلومات جديدة تنقصهم وتخليصهم من المعوقات التي تواجههم.. لا بد أيضاً أن يكون النمط الجديد متوافقاً مع بيئتهم التقنية والعملية وثقافتهم الاجتماعية.
المرحلة الأخيرة حين يكتمل تنفيذ الخطة الجديدة، يجب أن تكون جزءاً من ثقافة الوزارة لتنجح؛ فالأفكار والإجراءات والسلوكيات الجديدة ينبغي أن تصبح روتينية عبر توضيح تطبيقاتها للعاملين، وأن تُكشف لهم منافعها لتوفر لهم شعوراً إيجابياً بتنفيذها.. وأن تمنح مكافآت لذلك، ودورات تدريب لمهارات جديدة، وتوفير نشرة إرشادية بالخطة الجديدة توزع على جميع الموظفين والمدرسين.
الخلاصة أن التواصل الودي مع العاملين أثناء التغيير يهيئ بيئة إيجابية لإزالة توترهم من خلال تعبيرهم عما يساورهم من قلق وإجلاء غموض فهمهم لهذا التغيير، فالجهاز البيروقراطي الذي يديره كبار الموظفين السابقين هو وحده من سيطبق برنامج المسؤول الجديد أو يعرقله أو حتى ينسفه مهما ظن هذا المسؤول أن الكرة دائماً في ملعبه.. فهو قادم جديد وقد يرحل سريعاً، وهم الراسخون في المؤسسة...