د.عبد الرحمن الحبيب
أن تنشر مقالاً شاملاً عن قطاع وأنت كاتب مستقل فتلك وجهة نظر، أما عندما تنشره وأنت على رأس المسؤولية لهذا القطاع فتلك وجهة عمل، فلست في موقع المناقشة واقتراح الحلول بل في موقع تنفيذها. فماذا يريد أحمد العيسى بمقاله؟
الدكتور أحمد العيسى ليس فقط وزير التربية والتعليم، بل أهم مفكر تربوي سعودي يطرح رؤية واضحة ومنهجاً متماسكاً لإصلاح التعليم في المملكة، ويمتلك كفاءة استثنائية نظرياً وتطبيقياً في هذا المجال. لذا، نال مقاله «تعليمنا إلى أين؟» نقاشاً واسعاً ومقالات عديدة، أكثرها دوياً ما كتبه علي الموسى بقلمه اللاسع: «سأجيبك معالي الوزير: تعليمنا إلى الهاوية».
النقاشات حول المقال تفاوتت بحدة.. أحد كبار الأساتذة الجامعيين قال لي: إنه مقال توديعي. قلت: يا رجل، الوزير لم يكد يبدأ حتى يودع! أكاديمي آخر على العكس، قال: هذه بداية لقرارات كبرى.. مدرس متقاعد قال: الوزير يواجه مقاومة بيروقراطية؛ وآخر قال: بل إيديولوجية، وأن الصحافة ملاذه! هذا التفاوت يعود، جزئياً، إلى علامة الاستفهام في عنوان مقال الوزير التي كانت غير متسقة مع المحتوى.. فالعنوان كان سؤالاً والمحتوى كان إجابة عامة، ربما خلقت انطباعا أولياً ملتبساً لمن يقرأ على عجل.. فهل هو يتساءل ككاتب أم يجيب كوزير؟ إنه جواب في صيغة سؤال، أو بعبارة أخرى عنوان استفهامي يجيب عليه المقال.
المقال بعد الديباجة الطويلة (الشرط الوزاري!) طرح وصفاً عاماً للمشكلة وتشخيصها، تلاه تحديد العلاج بداية بإعادة صياغة مفهوم «المدرسة» كمؤسسة تعليمية تربوية. انتقل بعدها لإعادة الانضباط للنظام التعليمي، ثم إعادة صياغة للأنظمة والتشريعات، ثم المنظومة المرتبطة بالمنهج، وطرق التدريس، وتدريب المعلمين، والبيئة التعليمية...
من أجل هذا الحل اشترط الوزير تعاون الجميع، منوهاً أن ذلك لن يأتي إلا عبر قرارات صعبة وحاسمة، ودفع ثمن قرارات عالجت قضايا التعليم بمنظور قصير المدى، فضلاً عن العديد من المعوقات. لم ينهِ الوزير مقاله دون أن يضع خطة عمل منطلقة في اتجاهين؛ الأول: تحسين البيئة الإدارية، ورفع كفاءة الأداء، وتطوير النظم والإجراءات، وتصحيح بعض الممارسات، وتفكيك المركزية؛ والثاني: حزمة مبادرات ضمن برنامج التحول الوطني..
لعل أول سؤال يتبادر للذهن هو لماذا يكتب وزير التعليم مقالاً طويلاً عن وضع التعليم (المشاكل والحلول)، بينما هو على رأس الجهاز يمكنه البدء في تطبيق ما يطرحه، فالرسالة منه وإليه؟ أما إن أراد التوعية بإصلاحاته فيمكنه أن يوكل المهمة إلى جهاز الوزارة الإعلامي؟ يبدو أن الوزير يدرك أن مثل هذا التساؤل سوف يُطرح، لذا بدأ مقاله بالتذكير بمحاضرة الدكتور محمد الرشيد، رحمه الله، بُعيد تعيينه وزيراً للمعارف، عنوانها هو نفس عنوان مقاله الحالي. كأنه يقول أنني لست مبتدعاً في ذلك فقد سبقني آخرون. طبعاً، ثمة فارق بين محاضرة في ندوة متخصصة، ومقال للعموم؛ إنما ضخامة المسؤولية وتعقيدها وطبيعتها المؤثرة في الجميع ربما دعت الوزير لمشاركة العموم في النقاش..
في كل الأحوال، السؤال الأهم: ماذا بعد هذا المقال الذي يتضمن رؤية تصحيحية يكاد لا يختلف عليها أحد؟ الدكتور العيسى يدرك أن مقالاً دبلوماسياً بأفكار لا يختلف عليها أحد هو مقال لا يقول شيئاً ذا بال. لكن حاشا العيسى أن يكتب مقالاً لا يقول شيئا! بالنسبة لي، الرسالة الأساسية للمقال هي عبارة «قرارات صعبة وحاسمة» لحل جذري لمشكلات النظام التعليمي المتراكمة عبر عقود.. هذه عبارة «تهيئة» وليست إنشائية، إذا كنا نعرف أحمد العيسى الذي لا يقبل أنصاف الحلول، والذي انتقد في مقاله قاعدة «سددوا وقاربوا» للمنظومة المرتبطة بالمنهج.
المنهج أو المقرر الدراسي هو أكبر أزمة خلافية تُطرح عند تناول التعليم في المملكة. هذا بحد ذاته عقبة تقف كجبل وعر عجز عن تجاوزه الوزراء السابقون منذ بداية ما أطلق عليه «الصحوة»، لأننا نختلف بحدة في محتوى بعض المقررات خاصة الفكري منها، وفي نسبة كل مقرر بين المقررات.. فمثلا مدارسنا هي الأقل في العالم في نسبة مقررات الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا التي تعد بطاقة الدخول لاقتصاد المعرفة الذي يستند عليه الاقتصاد العولمي.
المقرر الدراسي في غالبية دول العالم يقع في آخر نقاشات إصلاح التعليم التي تتناول أسس العملية التربوية، وهي: البيئة المدرسية (المباني، الخدمات، الأجهزة التعليمية)، الإدارة المدرسية، المُدرس، النشاط اللاصفي. بعض الدول المتقدمة تعاني من ضعف مهارة المدرس لأن من يقبل على التدريس هم من الأقل مستوى بين خريجي الجامعات كما في أمريكا، بينما العوامل الأخرى مستقرة، لذا تجد أن تركيز النقاشات فيها ينصب على موضوع المدرس. بينما في دول أخرى يتم انقاء المدرسين من بين أفضل خريجي الجامعات مثل فنلندا، كوريا الجنوبية، سنغافورة، لذا تكثر النقاشات حول توفير أحدث الأجهزة التكنولوجية بسبب ضعف الميزانية، فينصب التركيز على الجانب التمويلي. وباختصار، الجدل حول المقرر الدراسي غير موجود في الدول المتقدمة.
بالمقابل، هنا في إعلامنا نكاد نغفل أغلب أسس العملية التربوية باستثناء المباني، أما موضوع المنهج فيأتي في المقدمة ويكاد يكون هو الوحيد لما له من ارتباط فكري بمسألة التطرف، وما يتردد عن المنهج المختطف أو الخفي وتوجه بعض الشباب للجماعات المتشددة. مقال الوزير لم يغفل ذلك محذراً من أن «إقحام التعليم في خضم صراع التيارات وتصفية الخلافات الفكرية سيقف عثرة أمام الحلول..» لكنه نبه إلى أن أحد مكبلات نظامنا التعليمي هي «ممن يتخوف من كل جديد فيحاول أن يمحو كل فكر مبدع ويسعى إلى تكبيل الميدان بشكوك وهواجس ومعارك صغيرة وتافهة..».
ما بعد المقال هو أن ثمة إصلاح لنظامنا التعليمي مهمته شاقة ومعقدة، وغالباً لا ترضي الناس حتى في أفضل نظم التعليم في العالم، فالناس تطمح للأفضل لتعليم أبناءها.. وما يزيد الصعوبة أمام الوزير هما معضلتان. الأولى: بيروقراطية، فجهاز التعليم ضخم جداً ومركزي يدير أكثر من ستمائة ألف موظف وموظفة. الثانية: إيديولوجية، حيث الممانعون لكل تطور وتجديد يقفون حجرة عثرة بأصواتهم المرتفعة رغم عددهم الضئيل.. فإذا كان مقال الوزير نجا من المعارك، فهل سينجو منها إذا بدأ في تطبيق ما طرحه أم تتحول المعارك الفكرية الصغيرة التافهة إلى كبيرة وتافهة!؟