د. محمد عبدالله العوين
تلألأت عيناها ببريق الإيمان وتوردت وجنتاها بأريج محبة الرحمن وأشرق محياها بلقاء الملك الديان، مطمئنة راضية مرضية..
ودعت الدنيا ولم تتمن شيئاً من زخرفها، ولم تتطلب شيئاً من زينتها، ولم تأسف على شيء مما فاتها من بهرجها، ودعت الدنيا ورصيدها الوحيد في بنك الآخرة رضا الله، وفي بنك الدنيا محبة الناس، ليس لها حساب ولا رصيد، وليس لديها بطاقات ولا فيز، ولا حملت بطاقة أحوال ولا جواز سفر؛ إلا بعد أن قال لها أبناؤها: الملك يقول لازم!.. ولا ركبت طائرة إلا للعمرة، ولا سافرت خارج الحدود إلا إلى مكة؛ حتى إنها اعتمرت في أسبوع مرتين.. رصيدها الأول والأخير السعي إلى محبة الله أولاً ثم محبة خلقه. والبطاقات التي تملكها هي محبة من عرفها أو عرفته أو جلس إليها أو جلست إليه.. وجواز سفرها الوحيد السريع الذي يخترق كل الحدود والقيود عباراتها البريئة بلهجتها القروية الخالية من التزويق والبريق والحذلقة.. مزحاتها اللطيفة العفوية، ضحكاتها المنطلقة من قلب أبيض؛ فتصل إلى القلوب مخترقة الحدود ومحطمة القيود التي يرسمها بعض البشر عادة في أول لقاء؛ ولكنها لا تأبه بقيود ولا حدود؛ فما في قلبها المتدفق بالنقاء يقفز على نمطية العلاقات ويكسر كل الحواجز؛ فما أسرع ما تألف وتؤلف، وما أجمل ما تبدو وكأنها تَعرف وتُعرف من سنين.
امرأة لم تخرج من شفتيها كلمة نابية، ولم تعتب أو تغضب ممن قصر أو أخطأ؛ ربما قست أو غضبت أو لامت أو وعظت أو زجرت حين يرفع الأذان ويوشك الإمام على إقامة الصلاة وأحد أبنائها أو إخوانها لم ينهض بعد؛ كانت تعظ وهي لم تدخل مدرسة ولا جامعة ولم تقرأ كتاباً أو تخط حرفاً إلا في مدرسة محو الأمية؛ لكن عظتها تصل إلى القلوب وكلماتها المعاتبة تفعل فعلها في النفوس أكثر بكثير من غلظة بعض المؤدبين وقسوة بعض المربين.
كان مؤشر المذياع على إذاعة القرآن دائماً، وما حرصت على الالتحاق بمحو الأمية إلا لكي تقرأ القرآن وتحفظه، لا تشغل نفسها بغير سماع القرآن أو الصلاة أو الصوم أو العمرة.
تطعم الفقير، وتشفق على العامل، وتغضب إن رأت طعاماً زائداً لم تكسب منه أجراً؛ وإن بقي منه شيء وضعته للطيور والحيوانات.
امرأة من نوع نادر لا تشبه كثيراً من النساء؛ لم تغتب أو تدع على أحد ممن جار عليها أو بخسها شيئاً من حقوقها، كانت تكل أمرها إلى الله وحده، كريمة مع أحبابها وأصحابها في الحضور وفي الغياب، وفية مع الغائب أكثر من وفائها مع الحاضر، إن زارت بيتاً من بيوت العائلة أيام الأعياد والمناسبات عملت واجتهدت كأنها صاحبة البيت لا ضيفة عليه، لا ترتاح حتى تشعر أن جميع من حولها مرتاح، ولا يستقر لها مقام حتى تسأل عن الصغير والكبير وعمن في الطريق لم يصل بعد؛ فكان قلقها على المسافر أكثر من قلقه على نفسه، سواء كان سفره قريباً أو بعيداً؛ ولذلك كان أبناؤها يخفون عنها مواعيد سفرهم ووصولهم؛ كي لا تشغل نفسها بالاتصالات أو ترقب المهاتفات!.
منحها الله ثلاثة من الأبناء البارين وابنتين رائعتين يتنافسون على محبتها ويتبارون في برها؛ فكانت تقسم أوقاتها بينهم، وحين ابتدأ مرض الكبد ينهك جسدها وقرر الأطباء ضرورة زراعة كبد لها من متبرع دافعت قدر ما استطاعت ألا يتبرع أحد من أبنائها أو بناتها بكبده خوفاً عليهم؛ ولكنهم كلهم أقدموا على إجراء الفحوصات لمعرفة من يتطابق منهم معها؛ فكان أصغرهم «عبدالله» الأقرب إلى التطابق التام، فلم تقبل ذلك بادئ الأمر، ولذلك سعى أبناؤها إلى علاجها في الصين وانتظروا توفر كبد مناسبة متطابقة بعد إرسال الفحوصات كاملة إلى المستشفى، وبعد انتظار طويل جاء الرد بالموافقة على إجراء العملية في الصين ووجود كبد مناسبة؛ لكنها رفضت العلاج خارج المملكة، وقالت أموت في ديار الإسلام بين أهلي وأبنائي.
امرأة قدمت من السماء ولم تنبت من الأرض، لم تحفظ إلا تمتمات الدعوات وأدعية الصلوات، ما كأن فيها طبع بعض النساء ولا كأنها مخلوقة من عجينة النساء؛ فما تاقت لزينة، ولا نافست في ثياب، ولا غالت في قشور.. امرأة معجونة من طينة البشر برائحة الملائكة، ومخلوقة من سلالة آدم بروح أمنا الحنونة حواء.
عليكِ رحمات الله ورضوانه، عليكِ صلوات الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين يا «أم إبراهيم» يا أمي الثانية.