د. محمد عبدالله العوين
كثيرون منا - وأنا أحدهم - غضبوا وتشنجوا من المواقف السيئة التي اتخذها الرئيس الأمريكي «أوباما» خلال ثماني سنوات من حكمه، هي السنوات الأكثر اضطراباً ودموية وفوضى في منطقتنا العربية.
اتهمناه - وأنا أحدهم - بالضعف وبالتردد وبعدم القدرة على الحسم؛ بل ربما أثقل بعضنا القول عليه فوصفه بعدم المقدرة على استيعاب تاريخ المنطقة وثقافتها وأقاليمها وأعراقها وتكويناتها السياسية.
وذهب عدد غير قليل من المحللين وأصحاب الرأي إلى أن «أوباما» أفقد أمريكا هيبتها السياسية وقلص من نفوذها في المنطقة ومنح فرصة جيدة لمنافسيها كي يكون لهم موضع قدم في المنطقة؛ كالروس مثلاً، وأتاح الفرصة لآخرين كي ينشئوا تعاقدات اقتصادية واستثمارية مع دول عديدة في الشرق الأوسط؛ كالصين وفرنسا والبرازيل وكوريا وغيرها قللت من هيمنة أمريكا الاقتصادية على بعض دول منطقة الشرق الأوسط في التسليح والبناء والإعمار والنقل وغيره.
هذا صحيح من جانب واحد؛ فلكل موقف سياسي ثمنه، والمنافسون المتسابقون إلى منصة قيادة العالم والتحكم بالقرارات الدولية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً يتطلعون إلى فرصة سانحة توحي بضعف المتسيد فينتهزونها؛ كصراع الفيروسات مع مناعة الجسم؛ فما أن تضعف الدفاعات الذاتية نتيجة لأي سبب حتى تتحرك الفيروسات الكامنة لتبدأ في إنهاك فريستها، فالصراع في جسم الإنسان بين المناعة وما يهددها من أعداء متربصين هو الصراع نفسه بصورة أكثر تجلياً حيناً وخفاء أحياناً أخرى بين الدولة السيدة أو التي يتصور العالم أنها كذلك ومنافسيها من الدول الكبرى التي ترى أن لديها من عوامل القوة والمنعة والقدرة على التأثير وفرض النمط والتبشير بالثقافة الذاتية ما لدى الدولة المتسيدة التي أصابها عارض من عوارض الضعف أو مستها لحظة تردد أو انتابتها ساعات غفلة عن حماية مناطق نفوذها في العالم.
هكذا يتصور كثيرون منا، وهكذا أيضاً تتربص دول قوية نافذة بلحظة الضعف الأمريكية المتوهمة التي اصطنعها الرئيس الأمريكي «أوباما» بمواقفه النائية بأمريكا عن التدخل العميق والقوي والمباشر في تغيير مسار الأحداث في المنطقة العربية كما نشتهي نحن العرب والمسلمين أو كما تهيأ ذلك للدول الأخرى المتطلعة للسيادة بأن أمريكا لم تعد هي الإمبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس!
الحق أن السيد الأسمر الموشكة شمسه على الأفول عن البيت الأبيض خلال أشهر قليلة معدودة ليس ضعيفاً ولا متردداً ولا غبياً ولا جاهلاً ولا مفرطاً بالسيادة الأمريكية على مناطق النفوذ ولا مغيباً عن حساسية التنافس الدولي على التزاحم على منصة قيادة القرار الدولي ولا بعيداً عن استيعاب طموحات الأسود التي استيقظت من نومها بعد حالة إنهاك كالصين مثلاً أو حالة غفلة وتيه كالاتحاد الروسي مثلاً آخر ولا عن النمور التي تبني لها عضلات قوية وتتمرن على خوض السباقات الطويلة مثل كوريا الشمالية وغيرها؛ لا بل هو يدرك ذلك كله ويعي ما يجب عليه فعله تجاه كل هذه القضايا؛ ليس هو الرجل الجاهل؛ فهو أستاذ القانون في جامعة هارفرد، وليس الضعيف؛ فهو من ارتفع بالاقتصاد الأمريكي من الديون التي أثقلته إلى مرحلة الاستقرار، وعالج أزمة الرهن العقاري، ووضع حلولاً مقبولة للتأمين الصحي وأعاد الجيوش الأمريكية إلى أمريكا، ويكاد أن يغلق «جوانتانامو سيئ الذكر في التاريخ الإنساني، وسعى طوال الفترتين الرئاسيتين على إعادة الاستقرار لأمريكا بعين مفتوحة بعمق على الداخل وعين أخرى مراقبة على الخارج.
لم يكن «أوباما» يجهل المنطقة العربية، ولم يغب عن باله تكوينها الديني وتشكلاتها الطائفية وتعدد أعراقها وتقاطع صراعاتها، ويعلم على اليقين ما يخزنه العالم العربي والإسلامي من عناصر المنعة والقوة، ويدرك كل الإدراك أن هذا المارد النائم قد يستيقظ فجأة؛ فيعيد بناء ذاته بما لديه من قدرات كامنة على إعادة البناء، وقد تتحول قدارته الكامنة أحياناً إن لم يحسن استخدامها إلى مناعة مضادة مرتدة فتضعفه وتشتته وتدمره بالحروب والاختلافات الدينية والطائفية والإقليمية؛ كما هو شأنه اليوم.
لقد أدى «أوباما» دوره على خير وجه كما تريد منه السياسة الأمريكية المؤسسية المرسومة، ونفذ الأجندة المطلوبة منه كما هو مخطط له أن يفعل، وفي المقال القادم إبانة لدوره الذي أداه بإتقان في مخطط الشرق الأوسط الجديد.
يتبع