د. محمد بن عبد الله ال زلفة
دخلت مدينة أبها في منافسة صعبة مع مدينة جبيل اللبنانية على لقب عاصمة السياحة العربية لعام 2016م فازت مدينة جبيل باللقب لعام 2016م، وفازت أبها بنفس اللقب ولكن في عام 2017م.
تحدثت في مقالة سابقة وفي هذه الصحيفة عن مدينة جبيل ومواصفات تلك المدينة الجميلة الكائنة
على ضفاف البحر الأبيض المتوسط التي أهّلتها للحصول على اللقب، ووعدت في نهاية تلك المقالة أن تكون مقالتي في هذا اليوم عن مدينة أبها التي شرَّفت المدن السعودية ولأول مرة أن تفوز بلقب عاصمة للسياحة العربية.
أشرت إلى أن مدينة جبيل يعود تاريخ بناؤها إلى العهد الفنيقي، وأنها مدينة تعاقبت عليها حضارات مختلفة ووضعت لنفسها موقعاً مميزاً على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.. وبما أن الحديث الآن عن أبها فأقول: تعود نشأة مدينة أبها إلى فترة ما قبل الميلاد واحتلت بموقعها المتميز مكانة متميزة بين حواضر المدن الجنوبية، حيث قام أول استيطان لهذه المدينة على ضفتي وادي أبها المنسوب اسمه إلى اسم المدينة إلى تلك العصور المبكرة. وادي أبها يُقسّم المدينة إلى قسمين.. قسم شرقي حيث يقع أكبر حي من أحياء أبها هو حي المفتاحة الذي به الآن أكبر مجمع ثقافي وفني في مدينة أبها.
والقسم الآخر من الوادي يقع في حي القابل الذي كان يوازي حي المفتاحة في الأهمية وتمددت أحياء مدينة أبها لتشمل العديد من الأحياء ومن أشهرها حي القرى ويقع إلى الشمال من حي المفتاحة وأصبح يضم أكبر تجمع سكاني أزيل كامل هذا الحي منذ سنوات مع أنه كان أجمل أحياء مدينة أبها ولكل أبهاوي وأبهاوية ذكريات سجلتها ذكرياتهم الشفوية المروية، وللأسف لم تسجلها كتب التاريخ الاجتماعي، ولم توظف تلك المرويات في أعمال روائية، ومن المؤسف أن كل من كان له في هذا الحي قصة قد ذهب معظمهم ولم يحفل أحفادهم الذين تفرقت بهم السبل بعد هدم حيهم بتدوين مرويات أسلافهم.
ونشأ إلى الشمال من حي القرى حي مناظر، وهو من أحياء المدينة الجديدة إذا ما قيس بنشأة حي القرى.. وفي حي مناظر كانت قصور علية القوم وبه قلعة الحكم قصر شدا وما يحيط به من مباني دواوين الحكومة ويعود تأسيس قلعة شدا إلى عهد الأميرين علي بن مجثل وعايض بن مرعي، وكان للأول قصراً في المفتاحة أمر الأمير عايض بن مرعي بإحراقه في عام 1834م لكي لا تتمتع قوات الغزاة بالسكن فيه حينما احتلت المدينة في صيف ذلك العام.
وبين القرى ومناظر ميدان البحار الذي لا أعرف سبب تسميته بهذا الاسم إلى الآن وكان ميداناً واسعاً تقام فيه الاحتفالات وتتجمع فيه الرايات حينما يداهم المدنية أو الإقليم ما يهددها بالخطر، وفيه تُعقد الاجتماعات الجماعية على مستويات حشود، وعلى أرضه يتم استعراض الخيول.. إنه بصفة عامة قلب مدينة أبها النابض بالحياة والحيوية.. إنه رمز خالد لهذه المدينة وظل كذلك إلى الآن، وإن كان أصابه بعض التغيير في هذا الميدان استعرضت كل قبائل عسير وكعادتها عبر تاريخها في مناسبتين مشهورتين أولاهما أمام الملك خالد بن عبد العزيز - رحمه الله -، وثانيتهما أمام الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - حينما ترك المنصة الملكية لمشاهدة الاستعراضات وذهب ليشارك أبناء منطقة عسير في ذلك الاستعراض التاريخي الجميل.
أبها مدينة التسامح
تمتاز مدينة أبها بأنها مدينة متسامحة حتى مع من قسا عليها ولها مع التاريخ ألف قصة وقصة وحينما كتبت عن مدينة جبيل اللبنانية في المقالة السابقة وجدت أنها تشبه مدينة أبها في التسامح وضربت لذلك التسامح بالأمثلة بما يتناسب مع ظروف تلك المدينة من التنوع في تركيبتها السكانية من حيث التعددية المذهبية واختلاف الأديان وضربت المثل الأعلى بين المدن اللبنانية في التسامح، وهذا أحد سر تميزها.. وصيفتها أو توأمتها أو غريمتها في التنافس على حمل لقب عاصمة السياحة العربية أبها تشبهها في التسامح ولكن بطريقة أخرى، ففي أبها تجد تمثيلاً متكاملاً لكل سكان منطقة عسير مع اختلاف انتماءاتهم القبلية أو الجغرافية أو الحضارية، فتجد القحطاني والشهري والشهراني والسنحاني والوادعي والأحمري والأسمري والتهامي والسروي والبدوي والحضري والنجدي والحجازي والجازاني والحائلي إلى جانب التركي والشامي والعراقي والمصري واليماني واليوناني، فمنذ الوهلة الأولى لقدوم أي من هذه الفئات إلى أبها تجدهم يتحولون إلى أبهاويين حضاريين لا يسأل أي منهم الآخر من أي مكان أو من أي قوم أتى، يتعايشون يتصاهرون يتحضّرون، فالبدوي الذي يغلب عليه جفاف بيئته وخشونتها سرعان ما يتحول بعد إقامة بسيطة في أبها إلى أبهاوي يتحدث كما يتحدثون ويأكل كما يأكلون ويندمج في نسيج هذه المدينة الساحرة الاجتماعي مثله مثل التهامي أو أي مكون قبلي أو عرقي آخر.
أبها المدينة المضيافة
فإلى جانب تسامح هذه المدينة مع كل سكانها فإنها مضيافة لا يحس زائرها بغربة، فمنذ أن تطأ قدم الزائر لهذه المدينة لأول مرة فما عليه إلا أن يسأل عن مكان النزل الذي يناسبه وحسب إمكاناته، ففي المدينة وتقريباً في كل حي من أحيائها الرئيسة نُزل أو أكثر من نُزل أو إن شئتم فسموه «بنسيون» على غرار البنسيونات في المدينة الأوروبية.. يتكون هذا النُزل من بيت تملكه وتسكنه أسرة يستضيفون الزائر ويؤمّنون له السكن والطعام والقهوة والشاي وإن كان طعامه معه فتقوم صاحبة السكن بإعداد طعامه وقهوته وتهيئ له مكان المبيت، وإن كان مصحوباً براحلة مثل حصان أو حمار أو بعير فتقوم هذه الأسرة بتأمين أماكن لهذه الرواحل مع تأمين طعامها وكل شيء بقيمته.
تمتاز هذه النُزل بنظافتها حيث إن المرأة الأبهاوية بطبيعتها أنيقة ونظيفة وبيتها يُعد مرآة لما تتمتع به المرأة العسيرية بهذه الصفات.
والنُزل تتفاوت في أحجامها ونظافتها وموقعها من الحي، وهي عبارة لما هو متعارف عليه في الوقت الحاضر فندق نجمة أو نجمتين أو ثلاث أو أربع أو حتى خمس نجوم، وربما كانت النُزل في أبها في ذلك الزمن الجميل تقيم مستوياتها من قبل بلدية مدينة أبها، حيث كان في أبها بلدية منذ العهد العثماني، وأبها من أوائل المدن السعودية التي أُنشئت بها بلدية في العهد السعودي.
وكان كبار زوار مدينة أبها من كبار موظفي الدولة أو زعماء القبائل أو المندوبين الرسميين لبعض الدول يُسكّنون من قبل إمارة المنطقة في النُزل الذي يليق بهم وتقوم مالية المنطقة باعتماد صرف ما يحتاجونه من قهوة وشاي وطعام بما فيها الذبائح أو اللحوم تقدم لصاحبات البنسيونات، ولدينا سجل وثائقي رائع بيوميات مالية أبها وما يُصرف منها لضيافة الزوار ومراتبهم وأسمائهم.
ظل هذا واقع مدينة أبها إلى عهد قريب حينما أُقيم فيها أول فندق في بداية عهد تولي الأمير خالد الفيصل إمارة منطقة عسير في مطلع عام 1971م.. ومع بداية هذه الفترة اختفى وجود البنسيونات، واختفى دور المرأة في المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في حياة أسرتها.
أبها مدينة التراث والفنون
أبها مدينة فنانة «وترفة» تحب الحياة وتحيا بمباهجها ترى الرجل مع بساطة ملبسه، إلا أنه أنيق في كل ما يرتديه وبخاصة في المناسبات وكذلك المرأة فلقد كانت تشكّل قمة الأناقة والاعتناء الفائق بمظهرها.. ثوبها المشكوك شيلتها المزركشة حزامها الفضي أو الذهبي الجميل أو حتى ما كان يصنع من مادة جلدية، فإن صانعي الأحزمة يضفون على تلك المحازم من أنواع التطريز وغيرها ما يجعل منه حزاماً يُزين خصور النساء.
كان في كل حي من أحياء مدينة أبها ساحة تُسمى المرحب حيث يتم استقبال الضيوف ويرحب بهم في هذه الساحات تقام السهرات وأنواع الطرب، حيث يشترك الضيوف مع المضيفين في تشكيل صفوف يرقصون ويلعبون ويفرحون بتلك المناسبة وللنساء مثل ما للرجال من تعبير عن أفراحهن.
البيت العسيري والأبهاوي بشكل خاص يضرب به المثل في أناقته وجماله ونظافته والمرأة العسيرية بطبعها فنانة خُلقت وهي لا تقبل إلا أن يكون كل شيء حولها جميلاً، فبيتها جميل مرتب تزين جدرانه من الداخل أنواع الفنون التشكيلية تحرص على نظافته أكثر من مرة في اليوم الواحد تهتم بالنباتات العطرية ذوات الروائح الزكية فلا يكاد أن تجد بيتاً ليس أمام بابه مزرعة صغيرة من أنواع الرياحين والبعيثران والوزاب والبردقوش وغير ذلك، ومع إشراقة كل شمس تجد صاحبة البيت تقطف من هذه الزهور وتوزعها في غرف منزلها وتقدم لزوجها ما يزين به عمامته من هذه الزهور خصوصاً إذا كان ذاهباً إلى مناسبة اجتماعية أو ذاهباً إلى سوق يوم الثلاثاء سوق أبها الأسبوعي وتقوم سيدات المنازل بتوزيع الرياحين على زوار منزلها.. يا لها من حياة كانت جميلة في ذلك الزمن الجميل.
كانت مدينة أبها المحبة للفرح ولكل ما يدخل على النفوس من ارتياح تشاركها فرقة القوات المسلحة الموسيقية التي كانت معسكرة في ثكنة داخل مدينة أبها في طرف ساحة البحار من الجهة الغربية، لقد أُزيلت هذه القشلة وهناك قلعة شمسان أحد معالم مدينة أبها أصبحت قلعة مهجورة الآن.. كان من هاتين القشلتين تخرج فرقة موسيقى الجيش تعزف في استعراض جميل تجوب طرقات أبها الرئيسة بعد عصر نهاية كل أسبوع ترى الناس يخرجون في الشوارع التي تجوبها تلك الفرقة، ومن لا يستطيع الخروج يستمتعون بالمناظر وسماع أنغام الموسيقى من على شرفات أو نوافذ منازلهم.. هكذا كانت الفرحة تعم كل القلوب والابتسامة تعلو كل الوجوه.. آه على ذلك الزمن الجميل.. وآه من زمن اختفت فيه الفرحة وغابت فيه الابتسامة، وهل أبها ستستعيد شيئاً من هذا في سنة كونها عاصمة للسياحة العربية؟.. أليس من حق زوار أبها أن يروا ما كانت عليه أبها في زمنها الجميل.. إنها الآن جميلة ولكنها بحاجة إلى من يذكرها بأنها دائماً جميلة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، والجميل دائماً يحب أن يُقال له إنك جميل لقد اختار العرب ومعهم منظمات دولية أخرى أن تكون أبها عاصمة للسياحة العربية لعام 2017م.
ولا يفصل بيننا وذلك التاريخ سوى سنة ونصف السنة.. فماذا نحن فاعلون من أجل أن تكون عروستنا أبها في أحلى حلتها في مناسبة عامها عاصمة للسياحة العربية؟.. إننا بحاجة إلى الكثير الكثير من العمل وعلى جميع الأصعدة ومن كل القطاعات الحكومية والخاصة وعلى مستوى كل فرد من أبناء منطقة عسير.. دعونا نقدم أحسن ما لدينا لنزف عروستنا أبها إلى العالم، وهي في أحلى حلة وأجمل صورة.. دعوا أبها تعود إليها الابتسامة والشعور بالفرح.. دعوها تعود إلى روحها المتسامحة المتحضّرة.
لقد تابعت ما قامت به بلدية جبيل في لبنان وأهل جبيل بمجرد ما أُعلن فوز مدينتهم بلقب عاصمة السياحة العربية للعام القادم أقاموا الأفراح وأُشعلت الأنوار وخرج الناس في الشوارع يحتفلون بفوز مدينتهم، وكتبت وتحدثت وسائل الإعلام اللبنانية بفرح بالغ عن هذا الفوز.
شكراً لأمير عسير الأمير فيصل بن خالد الذي عبَّر عن فرحتنا جميعاً بفوز أبها عاصمة للسياحة العربية لعام 2017م، وسيعلن سموه في يوم 10 يونيو من هذا الشهر الإعلان الرسمي بفوز أبها بهذا اللقب، وأتوقع أن يعلن سموه بما يجب علينا جميعاً عمله لتظهر مدينة أبها جوهرة المدن السعودية بأنها بحق استحقت هذا اللقب عن جدارة. ولقد وجدت أبها والمناطق المجاورة لها خلال زيارتي لها الأسبوع الماضي، وهي في حالة عمل متواصل ببناء الطرق والكباري وبناء المنشآت الصحية والحدائق العامة والمراكز الحضارية.
إننا أمام حدث مهم، ولا بد من مواصلة الجهود لنثبت للعالم أننا وطن يبني, وطن يقوم بمسئولياته في مواصلة البناء.. وطن يملك كل المقومات السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية تؤهله لأن يكون بحق الدولة العربية الرائدة والقائدة لأمة عربية تستعيد مكانتها المرموقة بين الأمم في زمن يحاول حتى الأقزام أن يتطاولوا على أحقية هذه الأمة أن تقود نفسها بنفسها وتحمي أمنها وتحافظ على تراثها وتاريخها وحضارتها، وسأحاول في مقالة قادمة طرح ما يُمكنني طرحه من اقتراحات استعداداً لهذه المناسبة.
حفظَ الله بلادنا، ووفق الله قيادتنا، وأدام الله عز شعبنا، وإلى اللقاء.