د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لمن تقرأ؟ وبمن تثق؟ ومن تصادق؟ ومن تُصدِّق؟ أسئلة عسيرة في زمن السيول المعلوماتية والتواصلية نواجهها اليوم لنعيا بتفكيكها وتحليلها والاتفاق على منهجيةِ قراءتها، وفي جيل ما قبل العالم الرقمي لم تواجهنا هذه الاستفهاماتُ فلم نقلق بالإجابات، ووجَّهنا آباؤنا ومعلمونا في بدء التكوين مثلما تابعونا فتبعناهم، وكانت حركاتنا محدودةً وسكناتنا معدودة، وفي الحركات خروجٌ وفي السكنات خلوة، وعبرها أيقنا بريادة الكبير، وحين فكرنا خارج الصندوق فصارت لنا قراءاتنا وصداقاتنا ظلت المبادئُ التي غرسوها حاكمةً متحكمةً نؤوب إليها أو بها عندما نرى من يشطح ومن ينطح ومن يهذي فلا يهدي.
** أما في العالم الرقمي فقد افتقدنا منطقية السؤال؛ فمن يصادق من؟ ومن يقرأ لمن؟ وتاهت معاني «المقارنة والتقويم والاختيار والاختبار» وسط ملايين المعلومات التي نتلقاها عبر الشبكات، ومئات إن لم يكن آلاف الأصدقاء الذين نصادفهم ونصافحهم، وعادت التربيةُ لتتجذر في التربة لا في السُّوق ولا في الأغصان، وأيقنا ألا جدوى من وعظياتٍ تجيء بعد زمن البذار الذي لا يتعدى الأعوام الخمسة الأولى من عمر الإنسان.
**لا معنى بعد هذا لاستنكار فعلٍ وتحميل أسرةٍ أو مدينة أو منطقةٍ وزره؛ فقد اختلطت مُعامِلاتُ التأثر والتأثير، ولم يعد التخصصُ أو الوسطُ أو البيئةُ عوامل وقاية ولا ضوامن أمان، وبات الارتباط بالافتراضيين وعوالمهم أقوى من وشائج ذوي القربى وتعليمات ذوي البيان والبرهان من العارفين.
** ومع أن التركيز متجه نحو المتشددين المعروفين والمتطرفين المجهولين إلا أن اللغة العالية التي يتبناها الأكثرون بمن فيهم «المعتدلون» ومن يسمون «الليبراليون» تبلغ مستوى التحريض يقوده من يمثلون القدوة المفتقدة؛ فأي جيل سينشأُ من شاتم ولاطم وأفَّاق؟ وما هي انعكاساتُ ذلك عليهم حين يكتشفون أن فيمن وثقوا بهم فأخذوا عنهم مَن يتمادون في تقزيم شركاء الوطن ممن لا يوافقون توجهاتهم.
** وإذا عبرنا أولاء نحو ضفاف الصداقات؛ فهل نعي من يحاورهم أبناؤنا في عالم هائجٍ تغزوه العلاقات غير السوية التي قد تستدرجهم نحو الرذائل بمعانيها ومبانيها المتموجة، وهل نكتشف أن من ركزوا سهامهم على الحلقات والجمعيات قد صرفوا الأنظار عن عوالم رقمية تستتر خلف شعاراتٍ جاذبةٍ لا يشرف عليها متدينون؟
** سيبقى الاتجاه نحو «الحلقات الأضعف» ظاهرةً يلوذ بها الأكثرون لتلوثهم بأدلجةٍ تأذن بعبور كل ما يوافق أهواءَهم وتشوه ما يخالفها، مثلما يقف التحشيد القَبلي والجهوي والإقليمي خلف الخلط الذي يرفع ويخفض كما يشاء ويلمَّع ويطفئُ من يشاء.
** يسيرٌ أن نكتشف السيئين العلنيين لحماية النشء منهم ولكن العسير معرفة نوايا المتلبسين بالحق والمختفين وراء معانٍ ظاهرها الجمال وباطنها الاستغفال وناتجها التشظي.
** الوطن للجميع.