د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
لم يجئ اعتزالُ (والتر كرونكايت 1916-2009م) إذاعةَ أخبارِ السادسة مساء من محطة « سي .بي إس» يسيرًا على متابعيه الذين رأوا فيه مصداقيةً افتقدوها في نشرات الأخبار الأخرى، وأيقنوا أنه الأبرز بين نظرائه في المحطتين الرئيستين: (أَي .بي .سي) و(إن. بي.سي) ولم تكن ال: (سي.إن.إن) ذات شأن عام 1981م حين قدم كرونكايت نشرته الأخيرة مختومةً بجملته الذائعة: (..كذا هو الطريق ..).
يذكر صاحبكم أنه قد صور تلك النشرة ثم ضاعت مع ما ضاع من أوراقه وصوره ووثائقه، ولم يخفِ أسفه على مغادرة رجلٍ آمن الأميركيون بما يقوله أكثرَ من إيمانهم بنبيهم وفق استطلاعات الرأي حينها، ورفض عروضًا قُدمت له لتولي مناصب سياسية بارزةٍ قيل إن منها منصب نائب الرئيس، والحكاية هنا مرتبطة ببحث الناس عن الحقيقة كما هي من متميزٍ لا كما يريدها من لا يبرأُون من تحيز.
اعتدنا العناية بالمتون قبل الهوامش والأصول دون الصور والشخوص أكثر من الظلال؛ أجاءت في كتبٍ أم مواقفَ أم بشر، وهي قاعدة غيرُ متصلةٍ لا ريب؛ فشروح بعض التصانيف العلمية أهم من المؤلَّفات نفسِها،كما قد يسلم الظل من تشويه الصورة ويبقى انعكاس الأصل أجمل حين ترسمه لوحةٌ أو مرآة.
تنطبق المعادلة السابقة على ثنائية «الخارج - الداخل» فيحتفي الناس بخوارجهم مثلما يلتفتون إلى خوارج سواهم ويحكمون بها عليهم، وقلةٌ من يلتفتون إلى الدواخل أو يتمكنون من قراءتها، وهو ما يجعل المعادلة مختلة، وقد وعينا أن التقوى في القلب والوعي في العقل والوظائف العضوية لا تتفاعل في العلن.
هنا يجيءُ توظيف مخرجات الإعلام والإعلان والتسويق - باختلاف أدوارها - معنيًا بالمظاهر أكثر من المخابر، ولا رهانَ فوق ذلك؛ فما لا يُرى قابل للإخفاء والإغلاق والتبدل،وهو ما يجعل الأحكام البشرية قابلةً للتأثر والتأثير في الوقت نفسه، وفيما يرى بعضٌ جانبَ الصورة المواجهَ يرى سواهم الجانب الآخر فتبدو المواقف المتضادة ويَميز النفعيون من الموضوعيين والمستفيدون من المحايدين.
لا نحتاج إلى استدعاء ذواكرنا كي تُسعفنا بأمثلة؛ فوسائط الإعلام الرسمي والتسويق الحزبي والإعلان الترويجي قادرة على إضاءة المعتم وتعتيم المضيء وفق نظرة «الجانبين» الجلي والخفي، وربما قصَّر بعضُها في أداء دورها فحملت رسالةً مناقضة غيرَ المناطة بها، وتمتلئُ أذهاننا بصور شخوصٍ تخالف حقيقتَهم في الاتجاهين كذلك، وبالمثل؛ فبعض التنظيمات تلبس أرديةً «ورديةً» وحقها أن تكون سوداء، أو سوداء وتستحق أن تكون بيضاءَ أو أقلَّ إعتاما، وربما جاء اللون زاهيًا وحقيقته ظلم وظلام.
**لم يكن «كرونكايت» فردًا بل دلالة، لكن الشخص فيه تفوق على النص، وهنا الفارق بين متنٍ ضمَّ الشروح وهوامشَ ظنت لغوَها متونا.
**من يعِشْ يعْشَ فلا يرى.