حمد بن عبدالله القاضي
هذا الكتاب الذي أكتب عنه هذا العرض كتاب أثير متميز: كتاب «الشيخ محمد بن ناصر العبودي من خلال عيون بناته» تأليف د/ شريفة و أ. د/ فاطمة و د/ لطيفة بنات محمد العبودي.
أما لماذا هو «أثير» فلأنه أولا عن علامة سعودي وموسوعة ثقافية، وكم رحلنا معه عبر مؤلفاته ما بين كتاب رحلة ممتع وسفْر تاريخ شامل وأدب جميل، أو عبر نفائس مؤلف منوع فضلا عن ذلك فمن يعرف معالي الشيخ محمد العبودي لا يملك إلا أن يحبه لما حباه الله من مضيء الأخلاق وكرم النفس ومحبة الآخرين وتقديرهم.
أما أن الكتاب «متميز» فلأنه رمز وفاء وخطاب إيفاء.. ومن بناته الفاضلات براً بأبيهن وتدوينا لما لا يعرفه الآخرون عنه، ولم يمر عليّ شخصيا «كتاب سيرة» كتبته كريمات عن أبيهن حفظهن الله مع إخوتهم ووالدتهم ورزقهم جميعا البر بهم.
الكتاب كشف عن جوانب في حياته لا يعرفها الناس عن حياة الأديب الشيخ محمد العبودي، ولم يتأتِ ذلك إلا لأن بناته هن مؤلِفات الكتاب وهنّ أقرب الناس إليه، فقد تربّين معه في بيته ورأينا كيف يعيش والدهم، وكيف ينظم وقته، وكيف يوازن بين التزاماته نحو أسرته وبين مسؤولياته وأعماله، وبين جلده على تأليف عشرات الكتب والموسوعات ذات المجلدات الكثيرة، ولا أظن أن أحدا يضاهيه حاليا بتنوع موضوعات كتبه، وفي أعداد مؤلفاته، وفي أسفار رحلاته.
لقد كشف هذا الكتاب عن سمات وخصال يتمتع بها شيخنا ومنها «النزاهة النادرة» فلم تغوه نزعة إلى مال حرام أو يغره بهرج من دنيا.. اقرؤوا ما كتبته ابنته د/ فاطمة، والتي غرس فيها هذه النزاهة والأمانة:
«من أبرز سمات والدي الشخصية النزاهة، فقد تقلد حفظه الله مناصب قيادية عدة ولم يسبق أن استغل منصبه لمصلحة خاصة أو استفاد مما يتوفر في عمله، حتى قلم الرصاص، الذي نبهني مرة وأنا صغيرة وقد رافقته إلى الجامعة الإسلامية عصر أحد الأيام، إلى ضرورة إعادة القلم لأنه ملك الدولة لا حق لنا فيه، فرسم بذلك الموقف خط حياة لي انتهجته فيما بعد بعملي وأذكر مرة أن وجدت ريالات وأنا ألعب في الشارع فأخذتها وأخبرت أهلي عنها، فأمر والدي أن أعود وأضعها في نفس المكان الذي وجدتها فيه، ففعلت، فجاءت عنزة أكلت بعضها أمام عيني، وكانت الغنم تسرح في شوارع المدينة المنورة تلك الأيام، وبقيت تلك الصورة في خيالي، تذكرني دوما بأن لا آخذ ما ليس من حقي مهما كانت المبررات، وقد كتبت أختي الأديبة الدكتورة شريفة قصة قصيرة، حول هذا، فقد أضعت ساعة أهداني إياها والدي بعد قدومه من أفريقيا في أول يوم لبستها فيه لسعتها على يدي النحيلة وأنا في الصف الثالث الابتدائي وعدت لأبحث عنها فلم أجدها، فقالت لو كان لكل صوت أبوي آمر كوالدي لوجدت أختي ساعتها».
نعم هذا الكتاب بلور سجايا كثيرة مشرقة لدى هذا الأديب الكبير كالكرم والحزم وإرادة الانجاز والرحمة والشفقة على أولاده الذكور والإناث وعلى أحفادهم.
وفي هذا الفصل من الكتاب الذي دونته ابنته د/ لطيفة، أبانت عن هذه السجايا بوقائع عايشتها وسمعتها ورأتها: «لقد حبا الله سبحانه وتعالى والدي بصفات ساهمت ومساهمة كبيرة فيما أصبح عليه من إنجاز مكثف ودقيق فهو شديد الملاحظة، قوي الذاكرة، مثقف محب للمعرفة، موسوعي الاهتمامات، ذو توجه وسطي يندر مثيله، هادئ الطباع، دمث الأخلاق، عادل حكيم، يتمتع بصفات القادة، مضياف سخي كريم، وحدث كثيرا أن استقبل ضيوفا على وجبة الإفطار والغداء والعشاء في يوم واحد، وكان يعتذر منا «والدتي وأنا» لما يسببه ذلك من جهد علينا ويقول: هم أناس سعوا إلينا فحق علينا إكرامهم.
وهو يستقبل ضيوفا في كل مكان يحل فيه يشهد على ذلك بيوته في كل من الرياض والمدينة المنورة ومكة المكرمة وبريدة والطائف، ففي المدينة المنورة والطائف يستقبل القادمين لأداء العمرة فيرتاحون في بيته، ثم يوفر للقادم منهم بالطائرة سيارته وسائقه الخاص لنقلهم إلى الحرم ثم إيصالهم للمطار في جدة والطائف عند انتهائهم من المناسك، وفي شهر رمضان يزودهم بالتمر والعصير والسمبوسة والقهوة والشاي عند إصرارهم على أداء العمرة نهاراً حتى لا يحتاجوا إلى البحث عن الطعام بعد تعب العبادة.
وهو متواضع، يحب الخير للآخرين ويسوؤه أن يسبب الأذى لأي أحد سواء بقول أو فعل ولو بدون قصد، ووالدي يتمتع بقدرة عالية على التخطيط واستشراف المستقبل كما يتمتع برؤية بعيدة المدى، وهو حازم لا يسوف ولا يتوانى في إنجاز المهام الموكلة إليه على أحسن وجه لا يحب التراخي والمتراخين، وهو واصل لرحمه وذوي قرابته، مكرم لجيرانه، على قدر كبير من تحمل المسؤولية وقد حدث أنه في عطلة الربيع عام 1433هـ كانت والدتي وبعض إخواني وأخواتي يزمعون السفر إلى الإسكندرية بمصر، وكان من المخطط له أن تسافر ابنتاي روان، ورزان معهم، وقد اشترى والدي التذاكر ودفع كامل مصاريف السفر للجميع، على أن نسافر أنا وبعض أولادي مع الوالد إلى القصيم، وقبل السفر بساعات قليلة عرض عارض طارئ منعهما من السفر مما أثر على نفسيتهما، ولكن والدي ولحنانه الكبير وشفقته عليهما وعدهما بأن يعوضهما عنها ويسافر بهما في أقرب فرصة، ولما مرض وهو لم يسافر بهما بعد، وعدهما بأن يسافر بهما بعد أن يسترد عافيته».
وللشيخ الأديب العبودي أساليب في تربية أبنائه وبناته حتى حققوا طموحهم، وقد روت ابنته د/ شريفة جوانب من أساليب وصفات تربيته، وعدم تفريقه بين الأولاد والبنات، وتهيئة كل الفرص لتحقيق طموحهم جميعا، وعدم التشديد على بناته بما لا يخالف الدين أو قيم المجتمع :
«لم يكن والدي يربينا على القمع أو التخويف، فعندما كنا صغارا نسافر من المدينة المنورة إلى القصيم بالطائرة أحيانا، لم يكن يعترض إن قمنا من مقاعدنا في الطائرة بعد إطفاء إشارة ربط الأحزمة لنتجول في ممرات الطائرة، كان يكتفي بالابتسام بحب وهو يتمتع بمرأى سعادتنا في الحركة لأنه يشجع الأطفال، بنين وبنات، على الاستكشاف ويحبذ حب الاستطلاع.
ولكن عندما كبرنا نحن البنات، تغيرت معاملته لنا فيما يختص بالحرية في الخروج من المنزل وتلك كانت صدمة لي أنا بشكل خاص، فقد كنت معتادة بطبيعتي على الانطلاق، ولم أكن اشعر بالفرق عند اللعب بين الإناث والذكور، فبعد بلوغي العاشرة لبست العباءة «لأني كنت طويلة القامة ومن يراني يحسب أني أكبر سناّ» ولزمت البيت، ولم يعد والدي يسمح لي بالخروج «ما عدا إلى المدرسة» إلا قليلاً وبرفقة والدتي أو أختي التي تصغرني، وكان يقول: سمعة البنت مثل الثوب الأبيض، أي دنس يبدو عليه بوضوح.
أما معاملة والدي لنا نحن البنات داخل البيت فلم تتغير أبداً ولم نلاحظ يوماً تفضيله للذكور علينا، وفي هذا المجال رفض والدي خلال أحد اجتماعات العائلة أن يقرّ شجرة عائلة العبودي الممتدة لأنها لم تدرج أسماء الإناث، بل اقتصرت على الذكور، وقال لمن أعدها:
- «عندما تدرج أسماء الإناث سأوافق عليها».
أما عن قصة عشقه للكتاب وعكوفه على القراءة منذ صغره فأمره بهذا عجيب بما رواه هذا الكتاب، وهو ما كون لديه هذه الحصيلة العلمية ذات الطيف المتنوع: دينا وتاريخا وأدبا ورحلات الخ، وقد كتبت ابنته د/ شريفة قصة ولعه بالكتاب وسفره من أجله فهو كما عشق السفر بين البلدان فقد عشقت عيناه السفر بين الحروف والأخبار.
وقد دونت د شريفة جوانب من ولعه بالكتاب بهذا الفصل:
«في بيتنا في المدينة المنورة مكتبة عامرة بكل أنواع الكتب في مختلف العلوم والمعارف الدينية والدنيوية، فوالدي إنسان متفتح الذهن يدرك أهمية المعرفة وتعدد مصادرها، ويكره الانغلاق في قوالب معدة سلفا، فهو يعلم أن الاختلاف سنة من سنن الكون، وأن المولى جل شأنه كلّف الإنسان بالأمانة، أمانة حمل عقل يفرق الإنسان به بين ما هو صالح فيتبعه وما هو طالح فيجتنبه، ولن يعلم ما الطالح حتى يقارنه بالصالح.
وافتتان والدي بشراء الكتب جعله يشتري تركات الكتب من الورثة وهي في صناديقها أو كراتينها، أي دون أن يعلم بمحتواها، كان يشتريها من الخارج، ومن الداخل، وكان في المدينة المنورة رجل من أهل اليمن يبيع التركات، وعندما يجد فيها كتبا يحفظها إلى أن يمر عليه والدي لأنه يعلم أن والدي سيشتريها بأسعار جيدة، فلا أغلى عليه من الكتاب.
ويذكر والدي أنه في شبابه المبكر ذهب مع رفيق له إلى عنيزة مشيا على الأقدام للاطلاع على كتاب «الإنصاف» في الفقه الذي كان لم يطبع آنذاك، علم بوجوده هناك.
ولم يتوقف افتتان والدي بالكتب والمخطوطات حتى الآن «1435هـ» فمنذ حوالي سنتين ذهبت مع الأهل إلى بريدة، إلى مزرعة ومنزل الوالد في العكيرشة، والتي خصص لكل واحد وواحدة من أولاده وبناته جناحا خاصا في مبنى منفصل عن المنزل الرئيسي لكي يأتوا متى شاءوا ليتمتعوا بالمزرعة».
لقد حرص الشيخ العبودي على تعليم أولاده، فقد روت كل واحدة من بناته الثلاث مؤلفات الكتاب عن قصة متابعته وحرصه وحضه على استكمال دراستهن.
لقد أوردن أشياء عجيبة عن كلفة بتعليم أولاده ذكورا وإناثا، واعتباره حفظه الله الهدف العلمي لهم، يجب أن يكون في أول أوْليات حياتهن وغاياتهن وفعلا، كنّ- حفظهن الله- على مستوى طموحه ورغبته حتى حصلن على أعلى الدرجات العلمية، ثم انخرطن بمنظومة العمل ليخدمن دينهن ووطنهن.
واختتم هذه القراءة السريعة لهذا الكتاب الذي عشت معه وقتا موشّى بالمتعة والفائدة، وأنا أتنقل بين أنهار الوفاء وفيوض الإيفاء بين أوراقه.
أختم برجاء لأخي العزيز وابن الشيخ الروحي أبو عبدالله د/ محمد المشوح بأن يسعى إلى تسجيل ما يتم طرحه في جلسة الشيخ الأسبوعية العلمية التي هي «بحق محاضرة» قيمة يجيب فيها العلامة على كل سؤال يطرح عليه بمعلومة دقيقة في أي موضوع يتم السؤال عنه.
إن هذه الجلسة لو تم تسجيلها وتفريغها وإبعاد المتكرر منها، لكانت «موسوعة مختارة» في الأدب والجغرافيا والفقه والشعر والأنساب والبلدان الخ.
متع الله شيخنا بالصحة والمزيد من العطاء، وحفظ له الود، ليس فقط من أسرته، ولكن من كل من أفاد من علمه ومضيء أدبه، بل كل من جلس إليه فرأى العلم والخلق متجسدا بهذا الشيخ الجليل والأديب والمؤرخ الكبير.