د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
حين سافرت للدراسة إلى القاهرة نهاية سنة 1974م. صادفت كتابًا لفت انتباهي بعنوانه المتميز (مستويات العربية المعاصرة في مصر: بحث في علاقة اللغة بالحضارة»، صدر عام 1973عن دار المعارف، عرفت لأول مرة أن القسمة ليست ثنائية إلى فصيحة وعامية بل إن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، فهناك فصحى التراث التي لا تكاد تسمع سوى في خطب المساجد وفي البرامج الدينية وفي قراءة القرآن. وهناك فصحى العصر تسمعها في نشرات الأخبار وبعض المواقف الرسمية، وقريب منها فصحى المثقفين التي لا تلتزم بالإعراب، وفصحى المتنورين ذوي التعليم القليل، ثمّ عاميّة الأميين. وعلى الرغم من السنوات التي قضيتها في مصر لم ألقه أو أعرفه معرفة شخصيّة، إذ لم يكن في الجامعات التي كنت أختلف إليها أشهد ما يناقش فيها من رسائل علمية، حتى إذا بدأت مشاركتي في مشروع السلطان قابوس لدراسة أسماء العرب عرفت أنه أحد أعضاء الهيأة العلمية التي تدير هذا المشروع، مع علي الدين هلال مدير المشروع وفاروق شوشة وأستاذي محمود فهمي حجازي، ونظم لقاء في القاهرة جمع الهيأة العلمية وخبراء المشروع لشرح خطوات العمل ولتصميم استمارات تفرغ فيها المعلومات، لا أنسى حفاوة الدكتور السعيد محمد بدوي بي الذي قابلني مقابلة صديق قديم، وحين تحدثت واطلع على طريقتي في تدوين المعلومات قال إن لك ذهنًا رياضيًّا، وأجده حين زرت القاهرة مرة أخرى لمراجعة جزء من مسودة المعجم يزورني في الفندق ويحدثني عن رضا الهيأة العلمية عن عملي ويعتذر عن ترك تضمين كثير من المعلومات التي وافيتها بها لأنه لا نظير لها من البلدان العربية الأخرى، كنت أجد منه الدعم المستمر، من ذلك ما حدثني به حين لقيته في (مؤتمر تعليم اللغة العربية في المستوى الجامعي) في جامعة الإمارات، العربية المتحدة/ العين،1992م. قال لي إنه من أوصى باستكتابي لهذا المؤتمر، وسمعنا منه في هذا المؤتمر بحثًا مهمًّا هو (النحو نوعان: واحد ندرسه و? ?تاجه، وآخر ?تاجه و? ندرسه)، ومن ذلك ثناؤه على كتبي الصغيرة التي تشرفت بإهدائها إليه قال لي إنها على مكتبي أعود إليها من حين إلى آخر، واختارني يومًا لمسايرته وراح يحدثني عن الوقت الذي كان قضاه في الرياض وما أنجزه في ذلك الوقت من دراسات ضمنها رسالته للدكتوراه في جامعة لندن عن (التنغيم الصوتي في لهجة الرياض).
ولعل من أهم المشروعات اللغوية التي شارك في إنجازها معجم العامية المصرية مع الدكتور مارتن هاينز أستاذ الدراسات اللغوية في إنجلترا، ومن تلك المشروعات أيضًا أحدث ترجمة عصرية لمعاني القرآن الكريم مع صديقه الدكتور محمد عبد الحليم أستاذ الدراسات اللغوية في جامعة لندن.
ومن الأمور المهمة عودة السعيد محمد بدوي إلى كتابه (مستويات العربية المعاصرة) لينشره مرة أخرى عام 2013م. عن دار السلام؛ ولكنها نشرة مطورة أضاف فيها ما رصده من تطور في الواقع اللغوي المصري، ورصد في مقدمته للنشرة الثانية التي جعل لها عنوان «مفترق الطرق الذى تقف عليه اللغة العربية اليوم» استعمال العامية في صحيفة عريقة هي (الأهرام)، ورصد خلط صحف المعارضة في استعمالها الفصحى بالعامية، وهو يقدم جملة من احتمالات المستقبل منها إحياء فصحى جديدة تستلهم فصحى التراث ومنها اتخاذ عامية المثقفين لغة للكتابة، ومنها الوقوع في «التشرذم اللغوي»، وكلها احتمالات مفتوحة؛ ولكن الأستاذ يتنبأ بربيع لغوي، قال «إن الربيع العربي (لا التونسي أو المصري أو الليبي) الذي بدأت بشائره، والذي تدل الدلائل القاطعة على أنه لن يتوقف حتى تتفتح الأزهار ويمتلئ الحَبُ وتنضج الثمار - هذا الربيع العربي لابدّ من أن يتفتح بجانبه ربيع لغوي عربي مكافئ». ومن أعمال أستاذنا سلسلة (الكتاب الأساسي في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها).
رحم الله أستاذنا السعيد محمد بدوي الذي توفي يوم الأربعاء 16 مارس 2016م . وكتب في نعيه أستاذنا العلامة سعد مصلوح «إنه لنبأ لا كالأنباء. أصمّ به الناعي وإن كان أسمع. غربت عن دنيانا شمس العالم الجليل، والإنسان الجميل النبيل الأستاذ الدكتور السعيد بدوي رحمه الله وفسح له في جنته، وعزى عنه العربية وأهلها، وعوض دار العلوم وأبناءها عنه خير عوض. لقد غيب الموت بغيابه عِلمًا غزيرًا، وقلبًا كبيرًا، وذكاء وظرفًا يعز أن ترى لهما نظيرًا. رحمات الله عليك يا أخي الحبيب وعلى رصيفك وصنوك من قبل الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر، وعلى شيخي ومعلمي الجليل الأستاذ الدكتور عبدالرحمن أيوب، فما أعظم فجيعة العلم في أمثالكم».
ورحم الله كذلك أستاذنا محمدحماسة عبداللطيف وغيره من علماء العربية الذين غابوا عنا بأجسادهم ولكنهم حاضرون بعلمهم وإرثهم.