د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
في عاميّاتنا من الألفاظ ما نتوهم أن ليس له أصل أو أنه من مولدات هذه العامية؛ ولكننا إذا رجعنا إلى تراثنا وجدناه مستعملًا؛ ولكن اللغة الأدبية والرسمية، خصيصى المعاصرة، أهملت استعماله كما أهملت كثيرًا من الألفاظ العربية المعبرة عن دقة في التفريق بين الأشياء، مثل الألفاظ المعبرة عن بقايا ما تمسه اليد فيعلق بها، جاء في (فقه اللغة وسر العربية) للثعالبي (ص75) «تَقُولُ العَرَبُ: يَدِي مِنَ اللَحْمِ غَمِرَة. ومنَ الشَّحْمِ زَهِمَة. ومِنَ السَّمَكِ صَمِرَةٌ. وَمِنَ الزَّيْتِ قَنِمَة. وَمِنَ البَيْضِ زَهِكَة. وَمِنَ الدُّهْنِ زَنِخَةٌ. ومِنَ الخَلِّ خَمِطَة. وَمِنَ العَسَل والنَّاطِفِ لَزِجَة. وَمِنَ الفَاكِهَةِ لَزِقَة. وَمِنَ الزَعْفَرَانِ رَدِعَة. وَمِنَ الطِّيبِ عَبِقَةٌ. وَمِنَ الدَّم ضَرِجَة. وَمِنَ الْمَاءِ لَثِقَة. وَمِنَ الطِّينِ رَدِغَة. وَمِنَ الحَدِيدِ سَهِكَة. وَمِنَ العَذِرَةِ طَفِسَة. وَمِنَ البَوْلِ وَشِلَة. وَمِنَ الوَسَخِ دَرِئَةٌ. وَمِنَ العَمَلِ مَجِلَة. وَمِنَ البَرْدِ صَرِدَة». فأين هذا الاستعمال في الفصحى المعاصرة؟ لا أظننا نستعملها اليوم كلها هذا الاستعمال؛ ولكنا قد نستعمل بعضها، فنقول لزجة، وقد نستعمل ألفاظًا تشاركها في الجذور، مثل: (العبق) و(مضرج بالدماء) وتستعمل عامتنا الفعل (يلثق).
وفي المقابل نجد العامية حافظت على استعمالات هجرتها الفصيحة المعاصرة كما هجرت كثيرًا من الألفاظ التي وردت في النص السابق، وأذكر مثالاً لما حافظت عليه العامية قولهم (ياوي له) أي (يأوي له) بمعنى يعطف عليه، واتخذت العامية سبيل تسهيل الهمزة، وهي لغة عربية قديمة حفظتها لنا قراءات القرآن، خصيصى رواية ورش عن نافع. وجاء هذا الفعل بهذه الدلالة في بعض الأحاديث، جاء في (سنن أبي داود) «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، حَتَّى نَأْوِيَ لَهُ». وجاء في (معالم السنن) وهو شرح لسنن أبي داود «قوله نأوي له معناه حتى نرق له، قال أويت للرجل آوي له إذا أصابه شيء فرثيت له». وهذا هو المعنى في عاميتنا فأوى له أي أشفق عليه. وجاء في معجم (تهذيب اللغة) للأزهري «وَفِي الحَدِيث: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُخَوِّي فِي سُجوده حَتَّى كَنّا نَأْوي لَهُ. قلت: معنى قَوْله (كُنَّا نأوي لَهُ) بِمَنْزِلَة قَوْلك: كنّا نرثي لَهُ، ونرقّ لَهُ، ونُشفق عَلَيْهِ من شدّة إقلاله بَطْنَه عَن الأَرْض ومدّه ضَبُعَيه عَن جَنْبيه. يُقَال: أَوَيْت لَهُ آوي لَهُ أويةً، وأيّة، ومَأوية، ومأواة، إِذا رَثَيت لَه». وتقول عامتنا اليوم: هذا ما عنده ماوية، أي مأويّة، أي لا يرحم أحدًا. والفعل (أوى) في الأصل العودة للمكان والتجمع فيه، جاء في معجم (العين) «تقول العرب: أوى الإنسان إلى منزله يأوي أُوِيًّا وإواء والأُوِيُّ: أحسن، وآويتُهُ إيواءً. والتّأوّي: التّجمّع». فكأن من يأوي لغيره إنما يعود إليه ويرجع ليكون في عونه وإيناسه. وهو في معناه مثل الفعل عطف الذي هو الانحناء الذي قد تقتضيه مساعدة الصغير أو العاجز حتى صارت هذه العناية عطفًا وإنْ لم يلابسها فعل انحناء بل شعور هو الدافع لذلك الفعل، ومثله الفعل يحنو عليه، فهو في أصله حسيّ ثم صار معنويًّا، وهذا الفعل أوى فهو في أصله حسيّ ثم صار معنويًّا بدلالته على الشفقة والرحمة.
فإن يكن الأمر كذلك في مثل هذا الاستعمال العامي فهو خليق بأن يستعمل في الفصيحة المعاصرة؛ لأنه تراثي، وخليق بنا أن نعرض كل استعمالات العامة على تراثنا فما كان منها تراثيًّا له أصوله استعملناه، وباستعماله نقرب هذه المسافة بين الفصيحة والعامية، وهو مطلب مهم إن أردنا للغتنا الفصيحة أن تكون لغة حياة؛ إذ لن تحيا إلا باستعمالنا إياها في بيوتنا وأسواقنا، وأن نخرجها من إسار استعمالاتها الأدبية والرسمية التي لعلها كانت سببًا في نفور العامة واتخاذهم مستوى استعماليًّا تحرر من بعض قيود تلك اللغة التي ضاقت بحاجاتهم وارتفعت عن مستوى قدراتهم.