د. محمد البشر
نهتم كثيراً بأن نسعى في طلب الدنيا، قال الله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} نطلب الدنيا لجمع المال، أملاً في الكفاف، أو الوجاهة، وربما لعمل الخير في الآخرين، ونقدم لذلك جهداً كبيراً، ومثابرة ومغامرة، وقد يكتفي البعض بالقليل لسد حاجته، ويتجاوز فاقته، إما الكسل ورثه، أو صنعه واستهواه، أو أن البيئة قد قادته إلى ذلك، وفي كل ذلك فإن ليسن معظم ساعات العمر من غير النوم تذهب إلى ذلك، أو التفكير فيه. لنيل الدنيا، ربما نتفق، أو نختلف، أو نتصالح، أو نتغاضى، وربما نتقاتل، ونتخادع، ونبالغ، وننافق، ونستعطف، ونشد، ونلين، ونصمت، ونتلاسن، ونجامل، ونحب بصدق، ونحفظ الوفاء، ونضحي، وغير ذلك من متناقضات الحياة التي نعيشها في فترة العمر التي تقصر أو تطول.
حقاً إننا نعطي الدنيا الكثير، وهي تستحق ذلك لأن عمارتها تتطلب جهداً كبيراً، وعملاً دؤوباً، وصبراً دائماً، ومصابرة متواصلة، وكفاح، وإلحاح، ونجاح، وأفراح، وأتراح.
ولعل المتنبي اختصر ما نقول، في بيتين قالها لمن أحب:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا
فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين لقيان المعالي رخيصة
ولا بد دون الشهد من إبر النحل
ويا لهذا الشاعر المبدع من شعر، رسم به النفس البشرية كما يرسم الفنان بريشته لوحة فنيه، يقول:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصا عليها مستهاماً بها حبا
فحب الجبان النفس أورده التقى
وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد
إلى أن ترى إحسان هذا له ذنبا
نصرف جزءا من ساعات عمرنا، وقد تكون قليلة في بعض المجتمعات في قراءة الكتب طلباً للتعلم أو العلم أو التثقف، أو الإبداع، وتختلف المجتمعات في ذلك، فهناك من يقرأ لنيل الشهادة، وهناك من يريد أن يقرأ ليعلم غيره ما علم، وهناك من يقرأ ليكون مثقفاً يشير إليه الناس بالبنان، والأسوأ هو من يقرأ ليكون له لسان سليط، أو قلم قدوم، فيسب به هذا، ويشتم ذاك، ويسعد نفسه -والعياذ بالله- بإيذاء الناس، وربما يجعلها أداة لكسب الرزق فحدة لسانه، أو قلمه تجعل الناس تشتري سكوته. وفي ظل الأداة الإعلامية المتاحة القابلة للضبط، أو التوجيه، أو تلك المنفلتة فإن المساحة كبرت، واتسع الخرق على الراتق، وطاب الزمان للمارق، والأدهى أن ينساق البعض وراء المأجورين مصدقين، لا يحسنون التمييز بين الغث والسمين، والضعيف والمتين. هناك من أراد أن يمتع عقله بالعلم، ويكتفي به دون العمل، وهو في ذلك قد قضى إربه، وأبهج قلبه، لكنه لم يزد على ذلك شيئاً، يقول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وهناك من تعلم فعلم، وبعد ذلك أبدع وأضاف للبشرية إضافة مفيدة، أولئك العلماء ومن ضمنهم المخترعين الذين قدموا للبشرية، هذا الكم الهائل من المنجزات، هم أولئك النوادر من ملايين المتعلمين الذين حاولوا، ووفقوا، وأفادوا واستفادوا، وبمثلهم تتغير الكثير من معالم الحضارة البشرية، وهذا هو الزاد الجميل المفيد الذي يحتاجه العقل ليكون رافداً من روافد الخير.
وكم من دقيقة بقينا بها نتمعن في جلب الرزق، ولا نفكر في نوع المأكل والمشرب، نأكل ونشرب دون أن نربط أن صحة الجسد، هي الأساس لطلب الرزق، والعلم، زيوت وشحوم، وخبز ورز، وسكر أبيض، وحلويات متنوعة، ومشروبات غازية، وأخرى للتقوية، والثانية لتربية العضلات، وعدد ما شئت. وفي المقابل، جلوس دائم، وهجر للرياضة وجلوس خاطئ، وبعد ذلك يقول قائلنا لماذا سمنت، ربما، وراثة أو غدة، أو عين حسود أصابت جسماً رشيقاً، ويعللون ذلك بأن هناك من يأكل ولا يسمن، ولهذا فلا بد أن يأكل حتى لو سمن.
لا شيء يمنع المرء من أن يأكل طعاماً شهياً مفيداً، وأن يأكل بقدر، ويشرب الماء، ويترك الضار ويقرب النافع، لكن ذلك يحتاج إلى تدريب النفس، واستبدال الضعف بالقوة، وعدم الانسياق خلف الهوى، فالهوى هو الخضوع له هو أشد فتكاً على المرء من الحسام المهند.
البعض يشتكي ظهره، وآخر ركبته، وآخر قلبه، وبعد حين ربما عقله، فيا للعجب من الإصرار على كل ما يضر.
الإسلام يهذب النفس ويمنعها من الانسياق خلف الهوى، وكثير من المسلمين يحرمون أنفسهم من بعض الملذات التي لا تتفق مع الإسلام، وهذه نعمة عظيمة، ودلالة أكيدة أن المرء إذا ما آمن وصدق استطاع التغلب على هواه، وسلوك المسلم الصحيح، والنأي عما سواه.
إذا كان المسلم كذلك، فلماذا لا يؤمن أن لجسمه حقاً، وأنه يستطيع التغلب على شهواته الضارة في المأكل والمشرب، حتى يكون قادراً على القيام بواجباته الدينية، والدنيوية، والعلمية، ويعيش حياة أسعد.