د.فوزية أبو خالد
لعبت مقابلة جيفري جولدبرغ مع بارك أوباما ليس بصفته الشخصية بطبيعة الحال، ولكن بوصفه رئيساً لأمريكا لعبة استنطاق للفعل بما يذكر بالجدل الفلسفي للمفكر اللغوي المعرفي البريطاني جيه إل أوسطن في تنظيره لاحتمالات الفعل الذي تمثله الكلمات.
فأوسطن لا يرى أن أهمية الكلمات يكمن في قدرتها على القول فقط، بل يرى أن سر أهمية الكلمات يتجاوز كونها مجرد وسيلة تعبير لكونها تعبيراً عن الفعل نفسه. مشيراً بذلك إلى امتلاك الكلمات قدرة تنفيذية.. فعندما يسأل الرجل المرأة (هل تقبليني زوجاً) فهو يستفز طاقة الكلمات على الفعل وفي حالة أجابت المرأة بكلمة (نعم أقبل) فهذا تحقق للفعل. أما إذا جاءت الإجابة بالرفض فهذا لا يقصر طاقة الكلمات على القول، بل إنه ينتج فعل معاكس.. وفي رأيي أن ما قاله أوباما في لقاء الأتلانتيك وإن اختلفت قراءاته لم يكن مجرد كلمات بقدر ما كان فعلاً تُعبر عنه الكلمات بما قد جرت به الأقلام وجفت الصحف.. فأوباما لم يقل كلمة في ذلك الحوار إلا وعبّرت عن فعل قامت السياسة الأمريكية بارتكابه في حق المنطقة، أو أنه في طور الاقتراف.
وهنا لا بد من لفت الانتباه إلى أن هذه الأطروحة من أطروحة فعل الكلمات تختلف تماماً عن القول المعهود «فلان قول وفعل», فهذه قد يصح عليها العكس أي أن العبارة تعلق الفعل كمصداقية للقول، أما في جدل أوسطن فإن الكلمات هي ترجمة للفعل أو تعبير عن الشروع فيه ووضعه موضع التحقق.. وهي أيضاً تختلف عن مقولة تاتشتر النسوية «إذا أردت كلمة قول فاسمع كلمة رجل، وإذا أردت كلمة فعل فاسمع كلمة امرأة» فهذه تتناول القول كشرط سابق للفعل وإن كانت ترهن مصداقيته بالنوع الاجتماعي.. ولهذا فإن فهمنا لمقابلة أوباما وهل هي تعبير عن كلمات أو أنها تعبير عن أفعال في كلمات يحدد نوع الانطباع عن تلك المقابلة وكيفية التعامل مع الموقف الذي تمثله ليس بوصفها كلمات وحسب، بل بوصفها انخراطاً في فعل.
وفي هذا، فبقدر ما بدت الكلمات التطمينية الناعمة التي استعملها أوباما في لقائه قادة مجلس التعاون الخليجي بكامب ديفيد عام 2015م تعبير عن فعل أقرب إلى الفعل الدبلوماسي بقدر ما بدت الكلمات المستنمرة التي استخدمها في التعبير عن موقفه من المنطقة عامة، ومنطقة الخليج خاصة تعبير عن الفعل السياسي البواح في أقصى حالات تحوله من النقيض إلى النقيض.. فالولايات المتحدة التي بنت تاريخ علاقاتها الخارجية على سياسة الكاوبوي بمعناها الترويضي والرعوي معاً لم تتخل يوماً عن طبيعتها الرأسمالية بما تحمله من ضراوة ضرورات الهيمنة في تقرير علاقاتها بالآخر من أقصى الاحتواء كما فعلت وتفعل مع «إسرائيل» إلى أقصى حالات العداء والحرب الباردة والساخنة، كما كان تاريخ علاقتها بعدد من دول العالم المتقدم والعالم النامي على حد سواء, من الاتحاد السوفيتي والصين إلى كوبا وتشيلي وإيران.. والحقيقة أن ما قاله أوباما لا يمثّل صوت أوباما الرمز للتعدد الأمريكي العرقي التسامحي الذي حرصت أمريكا على تسويقه داخلياً وخارجياً بعد الحادي عشر من ديسمبر, بقدر ما يمثّل الفعل الذي أقدمت عليه المؤسسة السياسية الأمريكية في حق المنطقة في تاريخها القريب ما بعد الولوغ في مستنقع غزو العراق وإشعال المنطقة بحروب الإرهاب والإرهاب المضاد وتعميم الفوضى الخلاّقة أو بالأحرى القاتلة.. ومع ما يبدو من جِدة هذا الموقف على أدبيات النقد الإمبريالي ونقد ما بعد الاستعمارية والكولونية التي بدا مثقفوها في حالة ارتباك إزاء تحول السياسة الأمريكية في المنطقة من التدخل التغلغلي إلى التخلي التنصلي من كل ما وصلت إليه المنطقة بسبب تلك السياسة التتبعية, فإن الموقف في الحالتين أي في حالة «التورط والتبرؤ» أو التغلغل والتنصل ليس إلا تعبيراً عن المصالح الأمريكية في اللحظة التاريخية المعطاة.. واقتراف فعل التدخل أو التخلي في تاريخ علاقة أمريكا بالمنطقة، وإن كان يمثل موقفاً انتهازياً لطالما كان على توافق مع الأقلية الحاكمة على حساب المجتمعات، إلا أنه فعل معهود في العلاقات السياسية عندما توضع على محك المصالح, غير أن الذي يجب ألا نتسامح معه في هذه اللحظة, ولا بد أن نعرف ليس فقط كيف نوجه فيه الأسئلة لأوباما في زيارته المزمعة للرياض الشهر القادم، بل كيف نحمل الإدارة الأمريكية على تحمُّل مسؤوليتها تجاهه وكيف نقاومه هو ذلك الخلل الذي عمل الفعل الأمريكي على خلقه في مواين القوى بالمنطقة بعمد وإصرار وبتراكم كمي ونوعي.. فعدا عن احتلال العراق وتحويله من بلد حضاري إلى أرض منكوبة فإنها لم تتورع عند قرارها بعودة قواتها العسكرية إلى بلادها من توريث مقاليد الأمر فيه للهيمنة الإيرانية لتحوله من مجتمع ذي لحُمة اجتماعية متجانسة إلى مجتمع ينهشه التناحر الطائفي على أساس مذهبي بواح. بما جعل العراق مجرد بروفة لسيناريو جرت تقوية إيران لتكرار دورها فيه بسوريا بالقفز على ظهر القوى المدنية التي ثارت على نظام بشار الأسد لتحويل اتجاه الحدث من حدث سياسي سلمي لحدث عسكري دامٍ تلعب فيه المليشيات الإيرانية دوراً بطوليا قذراً في شق لحُمة النسيج الاجتماعي السوري بالاحتراب الطائفي.. وهو السيناريو الذي لم تتورع إيران أمام الضوء الأمريكي الأخضر من محاولة تكراره في اليمن لولا المبادرة السعودية لمواجهته بالتحالف العربي.. وليس موقف أمريكا من تركيا كما عبّر عنه أوباما في اللقاء المشار إليه إلا ترجمة تنفيذية لمحاولة إخلال آخر بموازين القوى في المنطقة بضرب تركيا بالورقة الكردية, بما يحاول أن يوجه ضربة للتحالف السعودي - التركي الأخير لمزيد من خلل توازن القوى الإقليمي لصالح إيران.. وإذا كان على السعودية أن تجد طريقة للتعامل مع إيران أو العكس فهي لا تحتاج في هذا إلى نصيحة أوباما بذلك، بل الأمر يتطلب أن ترفع أمريكا يدها عن اللعب بموازين القوى في المنطقة لصالح إيران وإسرائيل.
فما عبر عنه أوباما تجاه السعودية ليس قولاً، بل فعل غير محايد ليس فقط بتبرئته للساحة الإيرانية، وكأنها ليست إيران التي تلعب بالنار الطائفية بالمنطقة, بل بتمريره للاتفاق النووي دون قيد أو شرط في الوقت الذي تمارس فيه إيران تسلطها الطائفي الانعزالي المزدوج على قوى المجتمع الإيراني من ناحية، وعلى عدد من العواصم العربية من ناحية أخرى.. فلو أن هناك خيطاً واحداً من الحياد الأمريكي تجاه توازنات القوى في المنطقة لما جعلت أمريكا رفع العقوبات عن إيران يمضي دون قيد أو شرط، لا في علاقته بدمقرطة المجتمع الإيراني ولا في علاقته بالحرائق الطائفية التي تشعلها إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن.. وفي لقاء مفتوح قامت به النيويورك تايمز مع مختلف شرائح الشعب الإيراني كان هناك شبه إجماع على تشكك شعبي عريض في أن يؤدي الاتفاق النووي مع دولة إيران إلى توسيع دائرة الحريات الوطنية وتفكيك التركيبة الطائفية للنظام.. وإذا كانت سفيرة أمريكا لدى الأمم المتحدة سنثيا باور قد رأت ضرورة تشديد الرقابة على نشاط إيران الصاروخي النووي بعد فترة وجيزة من توقيع الاتفاق لما لمسته من بوادر تلاعب في الأمر، فإن استمرار إيران في لعبة النار الطائفية أمر لا يقل خطورة في تشكيل تهديد وجودي وليس سياسياً وحسب لأمن واستقرار المنطقة مثله مثل السلاح النووي.
لقد كانت مقالة الأمير تركي الفيصل مقالة سعودية بامتياز في تعبيرها بهدوء ونبل عما تجاهله أوباما من مواقف للمملكة عبر اللحظات المفصلية في التاريخ الطويل للتحالف السعودي - الأمريكي، ولقد تناولته الصحف الأمريكية كمؤشر على رفض الإرشادات الأمريكية للسعوديين فيما يتعلق بالموقف من الصراع الإقليمي الدموي بالمنطقة.. وهذا بطبيعة الحال استنتاج صحيح.
يبقى أنه إذا وضعنا اعتباراً لمثل هذه القراءة القائلة بأن مقابلة أوباما كانت إشارة لأفعال، ولم تكن مجرد تعبير عن أقوال، فلربما نحتاج نحن أيضاً أن نسأل ماذا يمكن أن تفعل الكلمات التي يمكن أن تقال في هذا المقام سواء لأوباما أو للإدارة الأمريكية القادمة؟.. كما يبقى أن نقول: أوباما باي باي أوباما.. أوباما مع السلامة.