د.فوزية أبو خالد
هناك شخصيات تمر بنا لكنها لا تعبر سريعاً إلى أشخاص ومحطات أخرى بل تسري بصماتها في الدم، فتكتب بإيماءات صغيرة وبأفعال عفوية شفيفة أسماءها في قاع القلب، وتصبح جزءاً مكيناً من معمار العمر،
وليس مجرد واحدة من الصداقات العابرة أو المعتادة في كاميرا الذاكرة أو دفتر الذكريات. إنها تلك الشخصيات السوية القادرة على عدم التفريط أياً كانت المغريات، فيما وهبها الرحمن من ملكات الإخلاص والتسامح والوفاء، ومن مواهب لذة المشاركة الوجدانية والفكرية ومن طاقات البذل والعطاء. وهي شخصيات تتميز بقدرتها على تفجير الماء من الصخر بكلمة حلوة، وعلى تحلية البحر بلمسة حنان وعلى معانقة الجبال أو قطف الغيوم بقبلة في الهواء. وهذا ما يجعل مثل هذه الشخصيات السامقة قادرة على خلق ذلك النوع من الصداقات الذي يتعرّض لمهبات الشدة ولبرود الرخاء، فما تزيده رياح السنين ورياحينها الا ما يضيفه التعتيق على الراح وما تفيض به الأشواق على العشق. ولهذا فإن المحظوظين وحدهم في الحياة هم الذين يوفقهم الرحمن للقاء مثل هذه الشخصيات، وتربية مثل هذه الصدقات القادرة على الصمود في التقلبات.
فاطمة سالم الخريجي هي شمس من شموس ذلك النوع الشاهق الشفيف من الصداقات. أنعم الله عليّ بصداقتها وأخوّتها ما يزيد على ثلاثين عاماً، ولازالت فاطمة في تدفقها العفوي وفي حماسها الطفولي وفي إخلاصها لصداقاتها، تحتفظ بروح الفتيات اليافعات المتفتحات للتو على الحياة، ممن كن يكتبن آخر العام الدراسي في «الاتجرافات» الشائعة في مدارس ذلك الزمن من الستينات والسبعينات الميلادية» «أبله نها يا عيوني ياللي لبسه الليموني لما تدخل على الفصل مثل الأم الحنونة»، و»لو شاب شعري ما نساك طول عمري» و»مثل حب النحل للزهر ... صداقة لآخر العمر».
وعلى أني لم التق فاطمة الخريجي في تلك الفترة من التاريخ الفوار لمدارس البنات في اندلاعات عقديها الأول والثاني، والتي كانت تموج بتداخل أعمار البنات، بل إننا كنا في مدينتين مختلفتين أنا في جدة وهي في الرياض في مسارات دراسية مختلفة، فلطالما أعطتني صداقتها إحساساً بدفء نادر، وكأننا ربينا على حجر أولئك الأمهات اللواتي كن يتبادلن رضاعة الأبناء في تجمعات الضحى، ليمهرن علاقة الجيرة الطيبة بأخوّة الحليب في مجتمع الجزيرة ما قبل مرحلة المدارس.
التقيت فاطمة أول مرة في ريعان الشباب على أرض الحرم الجامعي بمدينة بورتلاند بولاية أوريجن من الشمال الغربي الأمريكي، على مشارف المد الطلابي العروبي في قلب أمريكا الصاخب وقتها، بمختلف تيارات الحركات السياسية والاجتماعية والنسوية من بقايا الحركة الهبية والسخط على الحرب الفيتنامية، إلى فورة التمرد العنصري والإثني الدائم وبداية التحول نحو الثورات البيئية الناعمة لجماعة الخضر والهنود الحمر والتشيكانو، وسواهم من أقليات أمريكا وأغلبيتها غير الصامتة، إلا أن تلك الشابة كانت على عكسي وشريحة من الطلاب السعوديين والعرب لتلك الفترة، نائية باهتماماتها عن المعترك السياسي الطلابي الملتهب بقضية فلسطين وسواها من قضايا التحرر لذلك الزمان, مبتعدة عن ضجيج مختلف المدارس الفكرية من الفرانكفورتية إلى نظريات التبعية والتخلف النقدية. وكان من الواضح وإن كنا في جامعتين مختلفتين، أن طالبة الماجستير في التربية الخاصة، كانت تفعل ذلك عن سابق عمد وإصرار ليس زهداً في مواقف وطنية مبدئية كالموقف من عروبة فلسطين ومعاداة الصهيونية، ولكن بهدف التفرغ بجوارحها للانغماس في رحيق كتب التخصص، وفي عشق ملكوت الطبيعة الخلاب لتلك الأرض وفي قراءة حرة من الأهواء والميول المأدلجة.
إلا أنني لم أعرف عن قرب مقدار عشق فاطمة الشغفي للجمال، ومقدار حبها المبرح للحرية وللمقاومة، ومقدار استعدادها للإخلاص حد التفاني للقيم السامية والمبادئ النبيلة، إلا عندما التقيتها لقاء العمر على أرض الوطن بالعليا شمال الرياض، بعد عودتها مباشرة خريجة جديدة بدرجة الدكتوراه من جامعة سركيوس العريقة بنيويورك. كان تجديد اللقاء بمقر «مقاومة الإعاقة»، أو ما يسمّى خطأ بجمعية المعاقين...., الذي اجترح مبادرة تأسيسه الشاعر الإنسان - رحمة الله - غازي القصيبي، وكان رئيسه الشرفي وقتها الأمير الشاب سلطان بن سلمان. وكان اللقاء حينها لمناقشة وإقرار المصادقة المبدئية للمملكة على ميثاق الأمم المتحدة لحقوق متحدي الإعاقة، حيث أكرمنا الله وقتها بتشارك العضوية في الجمعية العمومية للمؤسسة مع عدد من الزميلات، وكان منهن وفاء طيبة وميرفت طاشكندي، ود. غازي القصيبي ود. فهد العبد الجبار، وعدد آخر من الأسماء المهتمة بهذا النوع من العمل، إما بحكم التخصص أو الاهتمام.
جاء لقاؤنا بالرياض مع نهاية الثمانينات الميلادية بعد أن مضى على لقائنا الطلابي الأول ببورتلاند، عدد من السنوات التي كانت كافية لتشكل صلابة وشراسة شخصيات عصية على القوالب توّاقة للانعتاق.
تقاسمت مع فاطمة الكثير من أرغفة الانتصارات والانكسارات الشخصية والعامة، ولكن لم يمر في حياتي موقف إلا وكانت فاطمة البلسم لجراحي والرقية لقلقي والشفاء لآلامي والبارقة لآمالي. عاصرتني ولم تبتعد عني ولم تخف من صداقتي أو تخفيها، عندما منعت من العمل والكتابة، مع أنها من أقل الناس رغم التصاقنا معلومات عن تفاصيل تلك الأوضاع، فقد كانت مشغولة بالمساندة عن فضول التساؤلات في ملمّات الأصدقاء. عاصرتني في محنة السرطان فقطعت تذكرة وجاءت من الرياض إلى لندن تحمل ما خفّ حمله وثقلت موازينه من الصبر والمرح، لتلازم سريري شهراً كاملاً وتحفه بالشاهي الأخضر ومراوح الحرير وصحو البكور وقراءة سورة الكهف، وباقات النعناع وبحضور الحالمة فوزية الجار الله والمحاربة ابنتي طفول وموسيقى غرباء في الليل «سترنجر إن ذا نايت» التي كانت ذائعة في مرحلة الدراسة بأمريكا.
ربت فاطمة معي وصديقاتنا المشتركات عواطف القنيبط وهتون الفاسي ومشاعل البكر ولينا السليم أبنائي أثناء تحضيري للدكتوراه. وهي أم طفول وغسان في غيابي وحضوري دون منازع وبامتياز. و....كم لامس روحي جمال تلك المرأة الأخاذ أمس، وهي تقوم في غيابنا عن الوطن بتسجيل عبد الرحمن بن غسان في المدرسة للعام القادم بإذن الله.
فعن أي فاطمة الخريجي أكتب تلك المربية التي خدمت الوطن بعيونها، وواجهت مع أجيال من بناته تحدي أنواع الإعاقات على مدى سنوات عملها كمشرفة على جميع مؤسسات مقاومة الإعاقة بوزارة المعارف والتعليم العالي. أكتب عن فاطمة الأستاذة الجامعية بجامعة الملك سعود أو عن فاطمة المشاركة في شتى المبادرات الوطنية والثقافية والنسوية.... بهدوء وتواضع دون إعلام أو بهرجات. أكتب عن فاطمة الخريجي بنت الوطن السخية الأبية التي لا زالت في هذا العصر تخبز أرغفة حنطة الحب بيديها, تقدم من تمر القصيم الحنيني والقشيد.. وتفتح بيتها وقلبها لكل من قال سلاااااااااام.