د.فوزية أبو خالد
لا أظن أن كاتبا عربيا قد واجه منذ نشأت كتابة الرأي الصحفية تحديا مركبا بمثل هذا التعقيد الذي نواجهه اليوم لقول كلمة مستقلة نزيهة في عالم ملطخ بالدماء وسلطة الإتباع،
ولتحري بصيص لكلمة مضيئة في مثل هذا الضباب الكثيف، وللبحث عن مايشبه كلمة سلام وسط هباء الحروب كمحاولة وإن كانت يائسة لالتقاط ضحكة مكسورة من بقايا طفل، انتشال دفتر ممزق من بقايا مدرسة أو إنقاذ امرأة حامل من بقايا أسرة. فوسط هذا الحريق البواح من الحروب التي تلاحق المنطقة لتحرمها من حلم الحرية واللقمة الحلال أسوأ مايحدث هو انعدام الرؤية. صحيح كانت حرية التعبير محاربة في أزمنة طويلة متعددة عبر التاريخ العربي المعاصر لكن ذلك لم يكن يستطيع مصادرة القدرة على التفكير والبصر بحد ذاتها.
لا أظن الخراب الذي رأيناه في العراق وفي سوريا قد طال الحجر والبشر يمر اليوم دون أن ينال بلا هوادة من الفكر والخيال ومن أحلام الصحو والمنام ومن شرارة الأمل على امتداد المنطقة. وهذا هو الألم الذي يعتصر عقلي ووجداني وأنا أحاول كتابة هذا المقال ولا أعرف بعد عمري المعمر في الكتابة كيف أعبر عنه.
وإن كان المتابع سيجد بطبيعة الحال أن لكل عقد تحدياته التي لابد أن كاتب الرأي يجد نفسه في مواجهة شرسة للحفاظ فيه على الخطوط العامة للمبادئ الإنسانية الأساسية في وجه مراوغة التحولات السريعة الزئبقية للمشهد السياسي. وبما أن ذلك التحدي قد بدأ كما سجله الكواكبي ومحمد عبدو وجمال الدين الأفغاني والبستاني وشميل والمهجرين في الهزيع الأول من عصر حلم النهضة العربية واستمر كما سجله زريق والخولي وفؤاد زكريا وكمال أبوالمجد وعبدالوهاب المسيري والرميحي وبركات والشرابي.. غيث.. نعيم.. الجابري....الخ... إلى مابعد الهزيع الأخير من نهاية ذلك الحلم، فإنه لن يسعني إلا اختيار البداية من مكان ما وليكن بداية معاصرتي للمشهد السياسي ولكتابات الرأي به.
في السبعينات الميلادية كانت الصورة واضحة الصراع العربي الإسرائيلي، الهيمنة الإمبريالية على منابع النفط ومناطق النفوذ, القوى الرجعية والقوى المضادة بشتى أطيافها.. المواجهة بين التخلف والتنمية.
في الثمانينات تساوى استتباب العسكر باستبباب الملكيات بعد مآلات الثورة الإيرانية إلى دولة طائفية أحادية تصفوية وتفرق دم المقاومة في الصراع العربي الإسرائيلي وفلسطينيا تحديدا بين الأنظمة العربية ,وقيام البؤرة الأفغانية لامتصاص فائض التمرد الشبابي بالعالم العربي والإسلامي...ومراوحة التنمية بين النكوص واللاتكافؤ.
في التسعينات جاءت حرب الخليج الثانية لتفرض تحديا جديدا من نوعه على الخيارات المعتادة المحسومة تحت تلك العناوين الفضفاضة للتحولات... الوحدة... القومية.. الأمة الخالدة.....الخ. كما كانت التسعينات سجالا بين الانكفاء والخروج بوجل على مسلمات التسيس الديني والاكتوء بأدوات الأحادية والتحيز.
أما بداية الألفية الثالثة فقد كانت البداية لنسف المنطقة ومعادلاتها السياسية المستتبة باستسلاماتها ومسلماتها التي وعينا عليها وجدل التحولات المتعارف عليه لتخلق تحديا بإقتراب نهاية العقد الثاني منها يختلف نوعيا عما سبقه على مستوى الوجود والفكر والخيال وليس على المستوى السياسي وحسب. هذا بطبيعة اختصار مخل لمد وجزر تحولات تلك المراحل عربيا أكثر منه سعودياً.
إلا أنه بقدر اتساع الفضاء لأجنحة الكلمة وخاصة الفضاء التقني مع تصاعد وتيرة الحدث في العقد الثاني من مرحلة الألفية الثالية ، بقدر ماصارت تحك جماجمنا مضائق الرؤية ولجة عماء البصائر وتمزق بوصلة الفكر الرشيد في متاهة الهوى السياسي وميول الأيدولوجيا وتحول أمرنا بأيدي كثيرة سوانا. ولن أتحدث عن مصادرة المقالات التساؤلية ورقيا فمعاناة حجبها جزء من غيوم اللجة وتخوفاتها الغامضة حتى من الكلام الواضح ومن حق مساءلة المواطن للمسؤول الذي لايقل تبلبلبا وحرصا عنا إلى أين نحن ذاهبون.
أشعر أحيانا أنه ربما نجد شبه مخرج وليس حلا بأن تتداعى قلة والأفضل كثرة من قوى فكرعقلاني مجرد مواطنين يحاولون أن يفكروا بشيء من الرشد لمؤتمر أو لقاء أواجتماع على مستوى وطني عربي إقليمي لمجرد إطلاق عنان الخيال في مآلات المنطقة المرعبة والبحث عن ريشة أو قطرة ماء تقف في وجه هذا الخراب الذي تجره الحروب على المنطقة. تبدو لي الفكرة طفولية مثل اليسار الطفولي وأنا أتابع أخبار أو حتى أحضر وإن صرت نادرا ما أفعل مؤتمرات ولقاءات لاتعمل على أكثر من تهيء موائد فارهة أو متواضعة لعلج نفس الرطانة المبهمة التي صارت تتقاسمها النخب الرسمية والمجتمعية معا.
أتابع منتديات يعاقبني بعضها و يعاتبني بعضها لمتابتعتها بالقراءة فقط دون كتابة أو تعليق... وليس إحجامي تمنعا بقدر ماهو ذهول من قدرتنا على الأمل وسط حريق الحروب أو قدرتنا على اليأس وسط المخاضات... فلا أدري كيف أشارك في نقاش عن نوعيات الكيك فيما ليس من قطرة طحين لرغيف خبز أو كيف أدخل في حياد سلبي أو إيجابي من ضياع اللبن والبن والنفط والقطن في الربيع والصيف معا.
لا أقلل من شأن الاهتمامات التي يتناولها الكثير من كتاب الرأي أو الأكاديمين أو المثقفين أو الناس العاديين مثلي السعوديين والعرب عموما ولكنني بصراحة أشعر أننا نتناول الكثير من الشؤون والشجون... قضايا التعليم...... الأراضي... الانتخابات البلدية... الطائفية.. الإرهاب... الإسلام السياسي... الليبرالية... التشدد... الغلاء.. التأمين الصحي... الإعلام والإعلام المضاد ولكن دون أن نعبر إلا بكلمات متقاطعة عن هاجس المنطقة الوجودي السياسي الفكري. إننا كمن ينتشر سرطان تحت جلده بينما ينششغل بتخير ملابس يخالها للسهرة وهي في الحقيقة ليست إلا للسترة. والأنكى أنها لسترة حالنا عنا بينما هو مفضوح ومباح للآخرين.
افتتاحيات في الصفحات الأولى في الصحف بمستوياتها وتوجهاتها المختلفة نادرا ماتقول شيئا يتجاوز تطمينات تنم عن سكوت على قلق عميق. مقالات لكتاب كبار وشباب أيضا نادرا ماتقول شيئا مثل ما أفعل الآن. فاللهم أرنا الحق حق وأرزقنا بصيرة رؤيته. فخارج تنظيرات متبلبلة وأسئلة تستحي من التصريح بحيرتها وحزنها وقلقها ووجعها وخجلها لا بد من مواطنين ومواطنات يجترؤن الرشد أو يلتمسون قبس له.
كلمات متقاطعة موجعة ليست من صلب المقال:
أتحول وسط رياح الأحوال السياسية والعسكرية العصيبة العاصفة التي تمر بها المنطقة العربية إلى ريشة في مهب القلق، فأحاول عبثا أن أعيد توزاني بانتحال عبارة مشتقة من أجنحة الكلام لبصيرة أمي تقول, ليس هناك سموات تتسع ولا سنوات تكفي لسجدة حمد حين نفتح عيوننا على يوم جديد من أعمارنا القصيرة قادرين على رؤية فجة الفجر وجها لوجه لامن خلال قضبان نافذة غرفة بمستشفى ولا عبر الخيال من شقوق جدران سجن ولا داخل غمة من أنقاض حرب.
ما يحدث أن تنفخ تلك الكلمات الشاهقة مزيدا من هواء الشجن المغلي في عروقي ليركض دمي خارج نيويورك نحو تلك البلاد المسربلة بعشقي وأسئلتي مبتعدا عني.
****
كاريكتير العربي الجديد
هواجسي المتأججة كدبابير مستفزة تعيث في شبكيتي تتريث قليلا لتضحك بسخرية سوداء أمام كاريكاتيرات محمد عفيفا بجريدة العربي الجديد. يجيد حقا ذلك الغاضب بهدوء ومكر وطني شفيف التعبير عن تلك الثنائية التي تجري محاولة حشر كامل الوطن العربي بين فكيهما الهلال الطائفي والنجمة الصهيونية، فيما كل منهما يمسك خراطيم النفط وحمم رغائب الهيمنة من واشنطن وموسكو إلى طهران والعاصمة المسروقة من أرض فلسطين ليصب نارا يغذي أشجار الشر على الضفتين.
****
نوافذ للبصر
«الجرح هو المكان الذي يدخل منه النور إليك» جلال الرومي
****
«أترك نافذة في قلبك مضاءة لعل تائها في عتمة يرى طريقا» دلع مفتي
****
كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة محمد عبدالجبار النفري
****
ليس من لايحس بنقص النور بأبصر ممن يلح في البحث
****
أتقوى بأشواك القراءة علني أستطيع أن أسد وأدي لكلمة شرف شفيفة في حب الأوطان عقلا ووجدانا.