د. محمد عبدالله العوين
اختتم «معرض الكتاب الدولي» بالرياض أمس الجمعة نشاطاته وأقفل أبوابه بعد عشرة أيام ماتعة باتعة زاهية ببساتين المعرفة وبأزاهير العقل وأناشيد الروح، ومكللة بعبق الحكايات معطرة بأريج الكلمات.
مقدمة إنشائية لا شك؛ لكن ثمة ما وراء إنشاء الكلمات في وصف مكان وزمان لا يشبه أية تجارة رائجة في أي مكان وزمان آخر؛ فنحن الآن لا نفاصل أو تبايع أو نشتري وفق أحكام البيع والشراء والمفاصلة المعهودة في صالات ومتاجر البيع والشراء للماديات وللجمادات مهما علا ثمنها ونفست قيمتها؛ فليس أعلى ولا أكثر نفاسة من العقول، وهل يمكن أحد أن يصدق أن العقول تعرض للبيع أو الشراء؟!
عشرة أيام ليست كالأيام؛ بل لنقل عشرة بيادر، عشر حدائق، عشر جنان معروشات، عشرة بساتين فواحة بالشذى معطرة بالأريج!
هل الكتاب عشق؟ هل هو إدمان؟ هل لرائحة ورقه سحر خاص؟ أم لنكهة حبره ما يمكن وصفه بالخمر الحلال؟ هل ثمة ما يمكن وصفه بين العاشق والمعشوق بعلاقة الحب السرية المعلنة حينا والمخاتلة الممنوعة في أحايين أخرى؟!
هو ذلك كله؛ وليس من تفسير آخر أو قراءة أخرى لمن يتسكع بين الأجنحة لا ساعة ولا ساعتين ولا ثلاثا؛ بل ربما أربعا أو خمسا، حتى إذا هده التعب وثقلت أقدامه فلم تعد تسعفه على المشي اتكأ على عربة عشقه التي يجرها خلفه حينا أو يدفعها أمامه حينا آخر، فإن كان نشطا قادها بكل ما تحمله من مئات عقول البشر، وإن كان مجهداً تعبا قادته بعد تسكع في متاهة الزمان الذي يمر كطيف عابر لا تعريف لضحاه من ظهيرته من مسائه من ليله؛ فقد انمحت الفواصل بين الأوقات وتداخلت الساعات بين الأجنحة والممرات.
لقد شب هذا المعرض عن الطوق، وبلغ سن النضج بعد أن مر سنوات في طوري الطفولة والمراهقة!
هو الآن في أوج استوائه ناضج مكتمل الفتوة متوقد الشباب، تجاوز عثرات الطفولة، وارتفع عن شطط وجنوح المراهقة.
قد كان في طفولته صغيرا في مساحته، محدود التجربة في تعامله مع الناشرين والمتسوقين، غير مدرك كيف يمكن أن يوازن بين ما يحسن عرضه وما لا يحسن، وما يثير الزوابع ويشعل العواطف المتشددة والمحافظة؛ فكان يخطئ عن غير عمد، ويقصر في معالجة الخطأ من غير قصد، ثم كان في مراهقته مندفعا شديد الاندفاع؛ ففتح الأبواب للناشرين على مصاريعها دون فحص أو تدقيق أو اطلاع على ما يعرض؛ إما بحجة أنها عشرة أيام مفتوحة لا تماثل بقية أيام السنة في منظور الرقابة الصارمة، فبداع الاستمتاع بحرية العرض وشغف الاطلاع تم عرض كل ما جلبه الناشرون، أو ربما كان عن عجز عن الإحاطة بكل ما يجلبه الناشرون؛ لقصور التجربة وحداثتها ورداءة الإدارة وضعف عناصرها؛ فحدث الضجيج وعلت الأصوات وتشنجت المشاعر المحافظة؛ نتيجة لأخطاء لم يكن من الممكن أن تمر دون أن تحدث أثرا اجتماعيا بالغا.
وسنة بعد أخرى يستفيد القائمون على إدارة المعرض من أخطاء الماضي، وفي الوقت نفسه يعتاد الناس على ما هو طبيعي وغير نشاز عن سلوك المجتمع، وبمرور الوقت أيضا صار غير المألوف بالأمس عاديا اليوم، واستطاعت الإدارة السيطرة على ما يمكن أن يثير حساسية في المنظور الديني أو السياسي، فحجبت العناوين التي يمكن أن تثير، وعوقبت الدور التي لا ترعوي ولا تستجيب لحجب ما يجب حجبه بعدم المشاركة في الدورات المقبلة، وازداد عدد الدور على الرغم من ذلك؛ فقد كان الرقم في مرحلة الطفولة لا يتجاوز 450 داراً، وتجاوز الرقم في مرحلة النضج 1000 دار!
تجاوز المعرض طفولته بيوم للنساء ويوم للرجال، ثم تجاوز مراهقته حين كان يخص يوما «للجميع» حتى تعود الناس ذلك اليوم؛ فصارت الأيام العشرة كلها للجميع!
إن أثر هيمنة العادة الاجتماعية على النفس وإحكام السيطرة عليها يفوق أي أثر آخر يمكن أن تفرضه قوانين أو أحكام بالعقوبات والجزاءات، وإن مشقة التخلص من بعض العادات المستحكمة المهيمنة التي طالت مع تعاقب السنين والأعوام تعادل حالة مخاض لولادة عسيرة!