د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
لا تخطئ الأُذن صوته؛ فهو يشُدُّ السامع بحلاوة منطقه, وجميل لفظه, وعذوبة عبارته, ويأسره بواسع معرفته, وكبير اطلاعه, ووفرة علمه, مع ما حباه الله من خُلُق رحب, وتعامل عذب.
يتفنن في إيراد القصة مع ضبط تام لأحداثها, يُوردها كأنه ينظر إليها, مع أنه قد مرَّ عليها غبار السنين.
تتقاصر همم دون همته, يمضي ثلاث عشرة ساعة من يومه بين بحث وكتابة وقراءة.
نسخ كتباً كثيرة بيده في سالف عصره كذيل الطبقات لابن رجب. يقيد كل شيء تقريباً، بل يوصينا دائماً بأن نكتب كل شيء, وإن غلب على الظن ألا فائدة من كتابته الآن.
ما سُئل عن شيء يعرفه فكتمه, بل يضفي على مقدار الجواب ما هو أحلى من الجواب نفسه!
عَيْبة علم في التأريخ وأخبار الناس, بُلْداني رحّال, لم يبق دولة إلا وداست قدمه مدنها وقراها إلا دولة خليجية واحدة نزل في مطارها فقط مغادراً لغيرها, وليس هناك من مانع إلا أن الله لم يقدِّر له التّجْوال فيها.
بصير بأشعار العرب, حافظ للشعر، فصيحه وعاميه. أشهد أن الوقت يمر علينا في مجلسه أسرع ما يكون.
ترى وتسمع في مجلسه - غفر الله له - ما يسر الخاطر, ويفرح القلب, فإن شئتَ سمعتَ حِكماً وأمثالاً, وإن شئت التقطتَ درراً ولؤلؤاً.
في مجلسه تجد العلم, والأدب, واللغة, والتأريخ, والسير.
في مجلسه تسمع أخبار المسلمين في العالم وما رآه من أوضاعهم, بل أخبار غيرهم, مع كرم ضيافة, وخدمة وافية.
في مجلسه ترى التواضع المعهود من مشايخنا؛ فدائماً يطلب من جلسائه أن يتكلموا لا أن يكون هو المتحدث فقط, وكأني بالحاضرين يهمهمون «لم نأتِ إلا لنسمع منك وحدك؛ لا نريد شريكاً لك».
رزقه الله حافظة لاقطة, وذاكرة فائقة, حفظ الله بها علوماً وأخباراً لا تجدها عند غيره.
حقيقة، إنه درة من درر هذا الزمان. قال الشيخ الزاهد سعد الحصين - رحمه الله - في مقاله المنشور في صفحات جريدة الجزيرة، الذي عنوانه (العلامة محمد العبودي مثلٌ بارز للإنتاج العلمي والعملي)، ما نصه: «يسُرُّني في هذه الأسطر أن أضرب مثلاً بارزاً للسّعودي المتميّز بجدّه وهمّته وسيرته العلميّة والعمليّة: معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي (الإداري التّربوي اللغوي المؤرخ...). وقد عرفه أكثر المواطنين بما يذاع من سيرته في السَّفَر تعرُّفاً وتعريفاً بكلّ بلد على وجه الأرض. تحتاج مؤسّسات الدّعوة إلى الله التي عمل فيها إلى معرفة أحوال مواطنيها من المسلمين، ولو كانوا قلّة لا تكاد تُذكر.
ومعالي الشيخ العبودي عالم من الطّراز الأول؛ ضليع في العلوم الشرعيّة، وضليع في علوم آلتها، وبوتقة ربّانيّة، جمع الله فيها العلم والعمل والمواهب.
طلب العلم على فحول العلماء، مثل الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عمر بن سليم والشيخ عبد الله بن حميد والشيخ صالح الخريصي - رحمهم الله جميعاً -.
كان أول أعماله: إدارة مكتبة جامع بريدة، ثمّ التّدريس في أول مدرسة عصريّة في بريدة، وكانت إحدى (9) مدارس أمر الملك عبد العزيز - رحمه الله - بافتتاحها في نجد. وكانت مدرسَتِي في شقراء إحداها، ولكن تأخّر افتتاحها مع مدرسة الرّياض بضعة أعوام. ولعلّ الخير في ذلك؛ فقد رحّب الأهالي بقدومها بينما ضاق بها أهل بريدة خوفاً من سوء تأثيرها على أولادهم، وزاد خوفهم باستيراد إداريين ومدرّسين من أهل الحجاز، وفيهم الحليق والمدخّن، وهو ما لم يُعْرف في بريدة من قَبْل.
وكانت وظيفته الثالثة مديراً للمدرسة الثانية في بريدة.
ولما منّ الله على الملك سعود - رحمه الله - بفتح المعهد العلمي (الدّيني) في الرّياض عام 1370 (وكان وليّاً للعهد ولكن والده الملك عبد العزيز - رحمهما الله - قد سلّمه دفّة الحكم قبل وفاته بخمس سنين في رواية حمد الجاسر، وثلاث سنين في رواية عبد الله فلبي)، ثمّ فَتْح المعهد العلمي ببريدة، اختار الشيخ محمد بن إبراهيم تلميذه الشيخ محمد بن ناصر العبودي لإدارته. وزاد عدد هذه المعاهد المباركة على (60) معهداً في الدّاخل والخارج.
وفي عام 1380 منّ الله على الملك سعود - رحمه الله - بإنشاء الجامعة الإسلاميّة بالمدينة برئاسة الشيخ محمد بن إبراهيم لتعليم المسلمين من خارج المملكة المباركة الاعتقاد الصّحيح والعبادات والمعاملات الصحيحة كما كانت على عهد النّبي - صلى الله على وسلّم - وأصحابه، وأهداها (28) بيتاً من بيوت قصره، كانت أول مأوى لها، واختار الشيخ محمد بن إبراهيم تلميذه محمد بن ناصر العبودي مديراً لها مع الشيخ ابن باز - رحمه الله - نائباً للرّئيس في أعلى مرتبتين بالجامعة. وبدأت رحلات العلاّمة الشيخ محمد العبودي إلى أدنى الأرض وأقصاها.
ولما أُنشئت الهيئة العليا للدعوة برئاسة الأمير سلطان - رحمه الله - اختار الأمير سلطان العلاّمة العبودي ليكون يده اليمنى في الهيئة.
ثمّ اختاره ولاة الأمر أميناً عامًّا مساعداً لرابطة العالم الإسلامي فواصل رَحَلاته العلميّة الدعويّة إلى بقيّة أقطار الأرض، حتى ناهز السّنة التّسعين من عمره المقصور على العلم والتّعلُّم والتّعليم.
وتعلّم من مشايخه - زيادة على مسائل الاعتقاد والعبادات والمعاملات، وزيادة على لغة القرآن والسّنّة وعلوم القرآن وأصول الفقه ومصطلح الحديث والتّاريخ والسِّيَر - أخلاق العلماء بشرع الله في حركاته وسكناته وسَمْتِه وحديثه. ومع حُبِّه للمرح فلم أره زاد على الابتسام عند روايته أو إنصاته لرواية غيره طُرْفة تعجبه. ولم أسمعه رفع صوته غضباً من قول أو عمل لا يرضيه. ولعلّه أخذ من شيخه العلاّمة عبد الله بن حميد رحمه الله - بخاصّة - المرح والتّسامح ولِيْن الجانب للجميع، من يوافقه منهم ومن يخالفه.
ظلمه بعض الكتّاب الجهلة بشرع الله فلزّوه في قَرَنٍ مع ابن بطوطة المغربي، ولا سواء؛ فإنّ جُلَّ رحلات العلاّمة العبودي كانت في خدمة دولة التجديد والتّوحيد والسّنّة والدّعوة إلى ذلك, بينما كانت رحلة ابن بطوطة لإرضاء شهوة في نفسه. ويُرْوى أنّ ابن بطّوطة قضى بضعة وعشرين عاماً في التّرحال على الدّوابّ والسّفن الشراعيّة، فله ما لاقى من عنت، وعليه أنّ أكثر وقته ضاع قبل الوصول إلى غايته في آسيا وإفريقيا والبرتغال بحثاً عن بحر الظّلمات، وأملى ما ادّعاه من رحلته على محمد بن محمد بن جُزَي - رحمهما الله - في مجلّد واحد، وشكّ الباحثون في وصوله إلى الصّين بل إلى صنعاء مثلاً، ولعلّه خلط بين ما رأى وما رُوِي له عن مثل سدّ يأجوج ومأجوج. وأوثق دليل على ذلك كذِبه على ابن تيمية - رحمه الله - أنه رآه يخطب الجمعة ويقول: إنّ الله ينزل إلى السّماء الدّنيا مثل نزولي درج هذا المنبر. وابن تيمية - رحمه الله - لا يُشَبِّه صفات الخالق - عزَّ وجلّ - بصفات المخلوق أبداً، بل يُنْكِر على المشبِّهة أشدّ الإنكار. ولم يصل ابن بطّوطة دمشق في روايته إلا بعد سجن ابن تيمية الذي مات فيه. عوّض الله ابنَ تيمية بمقعد صدق عند مليك مقتدر.
أمّا شيخنا العلاّمة العبودي - زاده الله من فضله - فكانت أسفاره كلّها بالطّائرة؛ فيصل إلى غايته في كلّ أقطار الأرض في ساعات معدودة.
واستمرّت رحلاته نحو نصف قرن، وكتب عنها - عوضاً عن كتاب ابن بطّوطة (تحفة النّظّار) الذي خطّه ابن جُزِي رحمهما الله - نحواً من (136) كتاباً، طُبِع منها أكثر من (100) كتاب، إضافة إلى (16) في الدّعوة، و(30) في اللغة والأدب، وغيرها.
ولعلّ أول كتاب طُبِع له: (الأمثال العامّية في نجد - 5 مجلّدات)، وأكبرها موسوعته عن بلاد القصيم وعن أُسَر القصيم.
وهو - مع سَمْته وعلمه ووظائف عمله الحكومي التي منحه الله أكبرها منذ عام 1380 ونصف قرن بعده - يأخذ بنهج الرّعيل الأول ممن جمعوا بين العلم والعمل الشرعي والجدّ في الإنجاز ومراعاة الفسحة والسّعة في الدّين ما اجتُنِبَت المحرّمات وأُدِّيت الواجبات، كما قال عنهم عَلَم شقراء العلاّمة أبو عبد الرحمن بن عقيل - زاده الله من فضله -.
ولكنّه كان يصبر على حنبليّتي (أَوِيْ) - باللفظ المصري - عندما كنت أردُّ جميله - بإهدائي مؤلّفاته المتميّزة - بإلحاحي على أن تكون الأوليّة والأغلبيّة لنشر إفراد الله بالدّعاء وغيره من العبادة والنّهي عن صرف ذلك لغير الله - نسأ الله في أثره -.
كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن بمكة المباركة في12/ 3/ 1435هـ)».
حفظ الله صاحب المعالي الشيخ الموسوعي محمد بن ناصر العبودي، وجزاه الله خيراً؛ إذ اقتطع جزءاً من وقته ليجلس مع محبيه, ونفع الله بعلومه, وأمده بالصحة والعافية والسلامة.