د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
سمعتُ باسمه -رحمه الله- حين كان قاضياً بالمجمعة، ورأيته أول مرة في حفل زواج ابنته بسدير، فرأيتُ وقار العلم، وهيبة القضاء, مع جمال المُحيَّا، قد جَمُلَ المشلح على الشيخ -رحمه الله-, وقد كان -رحمه الله- على سنن علمائنا الأوائل من أئمة الدعوة في لبسه حتى في الذهاب لصلاة الجماعة.
ذهبتْ مدةٌ من الزمان ولقيتُ أحد الأصحاب فقال: إننا ذاهبون للسلام على الشيخ فهل لك في صحبتنا؟ فسألته: هل الدعوة خاصة أم في الأمر سعة؟ فقال: بل في الأمر سعة.
صحبتهم إلى منزله -رحمه الله- بالرياض وكنتُ آخرهم سلاماً عليه, فلما عرفته باسمي ضغط على يدي ضغطة العارف من أكون!
فلما استقر بنا المجلس فقال -رحمه الله-: الشيخ محمد! فقلت: سم أطال الله عمرك على طاعته, فقال: عندي لك شيئاً!! فقلت: اجعله بيني وبينك -رحمك الله-, فقال: دعني أُظهرها, فأطرقتُ رأسي قائلا: الذي ترون شيخنا, فقال: أنتم خوال لنا يا آل فريح!! فانبلجتْ أساريري، وأجبته: هذا شرف لنا, وسألته: كيف ذلك؟ فأخبرني وصار يحدثني عن أسرة الفريح كأنه واحد من أعمدتها, فقلتُ في نفسي إذا انفضَّ المجلس آخذ موعداً منه لأسجل ما لديه -رحمه الله- من علم عن الأسرة.
انقضى المجلس وأخذت رقم شيخنا غفر الله له ثم اتصلتُ به فحدد لي موعداً, حضر الموعد وحضر علمه المتدفق في الأسر والأنساب, وقد كنتُ لا أعلم أي أجدادنا الذي خرج من بلدة جلاجل إلى العطار؛ ولا أعرف كذلك أي جدٍّ يلتقي فيه عائلة الفريح في العطار مع أبناء عمهم في جلاجل, فلما سألته: أخبرني إخبار الواثق من خبره, الراسخ في علمه, وسلسل لي خبرهم كأنه يقرأ من كتاب -رحمه الله-, ولما انتهى قال: اعتذر لك فإن ذاكرتي قد ضعفت, وقواي قد كلّت!! فقلت: لقد أخبرتني خبراً لا أطلب المزيد عليه رفع الله قدركم.
زرته مرة في ضحى يوم الثلاثاء 4/1/1428هـ طالباً أن يملي علي ترجمة يسيرة عن سيرته العلمية والعملية.
فحدثني قائلاً أنا: محمد بن عبد العزيز بن سعد بن عبد العزيز بن عبدالله بن محمد (الملقب بالسبيعي لشهامته وشجاعته ووسامته) ابن علي بن فاضل بن عبد الله بن فاضل من آل غرير من آل حميد من بني خالد.
ولدتُ حسب التابعية 1351هـ والصحيح 1357هـ.
رحل جدي من شقراء إلى جلاجل, فكانت ولادتي ونشأتي بجلاجل.
بدأ العمى الشيخ -رحمه الله- منذ كان عمره أربعة أشهر، وعينه اليمنى كف أكثر ضوئها وعمره ثلاث سنوات وأكمل الباقي الجدري عام1361هـ.
دخل الكتاتيب..وتعلم على يد الشيخ فوزان القديري والشيخ محمد بن عبدالرحمن الربيعة.
حفظ القرآن وهو لم يبلغ سن الخامسة عشرة رفع الله درجته ثم رحل إلى الرياض لطلب العلم عام1367هـ وسجل مع الطلبة في حلقة الشيخ عبداللطيف آل الشيخ -رحمه الله-، وكان يجلس بعد صلاة الفجر يشرح للطلبة الآجرومية, وثلاثة الأصول, وبعد المغرب في الفرائض.
وكان الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله- يجلس بعد الفجرفي الألفية وبلوغ المرام وزاد المستقنع.
التحق بالمعهد العلمي عام1375هـ وتخرج منه عام1379هـ ثم دخل كلية الشريعة عام1380هـ وتخرج فيها 85 -1386هـ وبعد التخرج عين ملازماً قضائياً في محكمة الرياض عند الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن زاحم -رحمه الله- وكان الشيخ ملازما له قبل كونه ملازما قضائيا مدة سنتين، وكان الشيخ محمد يحب الشيخ بن زاحم ويثني عليه كثيراً ويذكر فضله عليه..
صدر تعيينه قاضياً بمحكمة الهدار من أعمال الأفلاج عام 1387هـ، ومكث في محكمتها خمس سنين إلا شهرين، ثم نُقل لمحكمة عسيلة بالسر في محافظة الدوادمي عام 1392هـ, مكث فيها أربع سنين وبضعة أشهر, ثم نقل إلى محكمة المجمعة في شهر صفر عام 1396هـ, ومكث فيها اثنتين وعشرين سنة، ثم صدر قراره بترقيته لدرجة قاضي تمييز في محكمة تمييز مكة عام 1418هـ ثم أُحيل إلى التقاعد عام 1421هـ وتعاقدوا معه لمدة عامين، فكان مكثه في القضاء (37) سنة, جعلها الله في ميزان حسناته, ورفع به درجاته في الجنة.
كان -رحمه الله- ذا علاقة بالمشايخ كالعلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، والشيخ حماد الأنصاري, وقبلهما العلامة محمد بن إبراهيم، وغيرهم رحمهم الله.
حدثني الشيخ -غفر الله له- أن رجلاً دخل المسجد واتجه إلى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ليسأله عن طهارة الكولونيا وعن حكم استخدامها, وكان الرجل يُسرُّ بالسؤال لئلا يسمعه أحد إلا الشيخ, فأجابه الشيخ -رحمه الله- بصوت سمعه من كان في المسجد, ومنه عرفنا السؤال والجواب, فكان جواب الشيخ -رحمه الله-:الكولونيا بعضها مسكر, وبعضها غير مسكر, وغير المسكر طاهر, والمسكر منها نجس, ولِمَ كان نجساً؟ لأن الله يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ}.
والرجس في اللغة: العذرة, وأي نجاسة بعد العذرة.
كان الشيخ صادعاً بالسنة, دالاً على الخير, محباً للعلم ولطلابه، لم يطلبه أحد ليقرأ عليه في العلم فردَّه, مع أنه يقول لمن أراد أن يقرأ عليه: ليس عندي زيادة عما عندكم.
كان أحب الكتب الفقهية إليه كشاف القناع للشيخ منصور البهوتي، وكان يصفه بالمغني.
كان -رحمه الله- فقيها, أديباً, محنكاً في القضاء, عالماً بالأنساب, سألته: ممن أخذتم علم الأنساب, فقال: من الوالد- رحمه الله- إذ كان عالماً بها, وكان الناس يقصدونه فأسمع منه ومنهم.
كان غاية في الكرم والبذل, ألح علي مرة لتناول العشاء, فقلت: بشرط أن آتي بالعشاء, فغضب -رحمه الله-, فلما أتيته فإذا هو قد أولم بشاة -رحمه الله-.
كان الشيخ -رحمه الله- أحد المناقشين لرسالة الدكتوراه المقدمة من الشيخ عبدالسلام بن برجس العبدالكريم -رحمه الله-.
الحديث عن الشيخ محمد الفاضل -رحمه الله- ذو شجون, ولا يمكن أن يوفي مقال قدره، مؤملاً أن يقوم أحد الطلبة بجمع أقضيته ودراستها, وأن تكتب ترجمة تظهر مكانته -رحمه الله-.
توفي -رحمه الله- صباح يوم السبت الموافق 5/12/1436هـ رؤية, و6/12 حساباً, في أيام عظيمة، وكان قد جاءه مرض أتعبه مدة من الزمان حتى لحق بأهل القبور, جعل الله قبره روضة من رياض الجنان, وصُلي عليه بجامع الملك خالد بالرياض بعد صلاة العصر, -رحمه الله- رحمة واسعة وأصلح الله له عقبه, و(إنا لله وإنا إليه راجعون).