د. حمزة السالم
لكل فعل نتيجة تنتج عنه مباشرة أو غير مباشرة طال الزمن أو قصر شعرنا بذلك أو لم نشعر. وقراءة الكتب والخبرة التخصصية وطلب العلوم، أفعال لها آثار محمودة، في غالبها، وهي أثار معلومة مشهورة. ولكن ذلك ليس على إطلاقه علمياً. ففي الاقتصاد العمالي تحتسب سنوات الخبرة إيجابيا على تحديد المرتبات ثم تنعكس بعد مدة يحددها المجال المهني، لتحتسب سنوات الخبرة سلبياً على تحديد المُرتب. وتختلف السنوات تبعاً لاختلاف الأعمال والمهام، وحسب اطلاعي، أيام دراستي، فالحد الأقصى للخبرة الإيجابية كان 25 عاماً.
وكذلك هو الأمر في مستويات التعليم والتدريب. وأعتقد أن القراءة خبرة وعلم لذا فهي تأخذ الحكم الاقتصادي العلمي للخيرة ومستوى التعليم. بل إني أعتقد أن للقراءة على إطلاقها، آثاراً سلبية كثيرة لا يتحدث عنها المربون والمختصون. وربما أكون في رأيي المتطرف هذا، واقعاً في شباك أسر دفاع نفسي لذاتي لأُرِيحُها من لومها لذاتي بكوني لا أقرأ مطلقاً ولم أقرأ كتاباً قط ولو كان صغيراً، منذ أكثر من عشرين عاماً، أي منذ حططت في أمريكا مبتعثاً، إلا الكتب التي درستها كطالب والتي درستها كأستاذ في الجامعة.
وأنا أعتقد أن الحث على القراءة مطلقاً أمر يستلزم إعادة النظر خاصة في مجتمعنا، وإن كان مجتمعاً لا يقرأ بالجملة. فمجتمعنا مجتمع نشأ على التلقين والتوجيه، فالقارئ منا يختار قراءة ما يناسب هواه. وما يناسب هواه هو الذي يألفه ويعرفه. والذي يألفه ويعرفه هو ما تم تلقينه إياه من صغره. لذا فليس هناك زيادة إيجابية من القراءة، بل هناك زيادة سلبية تتمثل في ترسيخ قناعاته وتدمير قدرته العقلية التحليلية والإبداعية.
وأعتقد أن مجتمعنا اهتم بالحض على القراءة ولم يهتم بتعليم أصول القراءة. فقراءة الطفل هي عملية تلقين له، لذا يختار والديه الكتب المناسبة له ولهم. والقراءة المهنية والتخصصية هي كذلك قراءة طفل، ولو كان القارئ طالباً جامعياً. فبداية التعلم والتدرب لا تكون إلا بالتلقين. ولكن يجب على المرء بعد تلقن أصول العلم، الخروج من هذه المرحلة، لكي لا يبقى طفلاً في أحضان مؤلفي هذه الكتب. وأذكر مقولة لفقيه أنه قال: «الناس بين أيدي فقهائهم كالأطفال في أحضان أمهاتهم».
وأعتقد أن الاعتياد على هذه التبعية الفكرية لا تقف عند حد تبعية فتوى الفقيه، أو حكمة الشايب، بل تتعداها فترى الواحد منا مهما حصل من درجات علمية أو عقود خبرة إلا أنه تبع في الرأي لا يستطيع حتى تميز الفروقات الظاهرة بين حالته التي يقف عليها، وبين ما تلقنه في مرحلة طفولته الفكرية. وشاهد ذلك ما يردده بعض المسؤولين والخبراء حول اقتصادنا، فضلاً عما يردده الإعلام. فكم استغرب من نقاشات واختلافات عند سماعها يخيل لك أنك تجلس في الول ستريت تتحدث عن السوق الأمريكية والأخلاق المهنية الأمريكية لا السوق المالية السعودية ومستوى مهنيتها وقدراتها.
والتحرر من الطفولة الفكرية أمر ليس سهلاً، حتى لو جعلنا تعليمه ضمن المناهج الدراسية والتربوية. بل هو يحتاج لمواقف توقظ في العقل البشرية المقدرة الاستقلالية بصدمات تدفعه دفعاً لا خياراً. وهذه الصدمات خطيرة فهي كحد السيف يقطع أينما ضرب. فقد تسبب الصدمة خروجاً عن المجتمع، وعن المنطق والعقل، لا خروجاً عن التبعية الفكرية. وهذا ما نراه في بعض من المثقفين أو المتدينين. فإما ماركسي أو أفلاطوني وإما داعشي.
القراءة بتقبل مطلق أو بنقد مطلق، هي في الأولى تبعية وفي الثانية سفسطائية. والخبرة التي ضُيعت سنواتها في اتباع التعليمات والسير على الجدول المكتوب، خبرة لا يجب أن تتعدى محلها الوظيفي التنفيذي لا الاستراتيجي.
والاستقلالية الفكرية، متى امتلكها شخص بحق، تكون سبباً في رؤية صاحبها لأمور ظاهرة لم تُر من قبل. وكون هذه الأمور جديدة انفرادية لم تُر من قبل فهذا يخلق في نفس صاحبها تحدياً ذاتياً لفكره، ومراجعة مستمرة خوفا من الخطأ، فيقع في براثن مجتمعه المتربص به لمخالفته إياهم. وهذا التحدي والمراجعة الذاتية، تجعله يتقدم ويتطور في أفكاره، حتى يصل إلى مستوى متقدم، يضعه أحياناً في انعزالية كاملة عن مقدرة مجتمعه الفكرية. فانفرادية الرأي، خاصة إذا كان الخطأ البين هو الرأي المُتَقَبل والمنطق المُتبع، أمراً ليس فقط متعب عملياً واجتماعياً بسبب انفراديته، بل هو كذلك متعب نفسياً جداً يدفع صاحبه للعزلة والهجرة بعيداً عن مجتمعه. ولعل هذا ما وجده المتنبي فقضى حياته متنقلاً، فخفف عن آلامه بزفرته المشهورة «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم».