د. حمزة السالم
كنت طالباً عسكرياً ما زلت مراهقاً، عندما قادنا مدرب المساحة إلى رأس جبل نرصد نجوم السماء فنحدد مواقعنا ومسارنا على الأرض. فوصف لنا نجما في الجنوب وطلب منا ترائيه بالمناظير، فلم أره فأخذ يساعدني لكي أراه ولكنني لم أستطع، وحاول كثيراً، حتى آياس فقال لي «أنت بليد ميؤوس منك»، وأنا والله من طبعي لا استطيع أن ازعم الفهم ما لم أفهم، ولا أستحي من ذلك. وفي اليوم الثاني وأثناء الدرس النظري أخذ يشرح لنا كيف أن نجم البارحة (الذي راه الجميع إلا أنا لبلادتي)، ينتقل من الجنوب إلى الشمال خلال فصول العام وكان يعتمد الأشهر القمرية، أي المحرم وصفر. فسألته، بأن الأشهر القمرية تتغير مواقعها خلال رحلتها بين الشتاء والصيف، فما كان منه إلا أن أخرج الجدول الذي أعطاه إياه المدرب الأمريكي قبل عقود زمنية وفيه مقابلة الشهور القمرية بالشهور الشمسية في تلك السنة. فلما رأيت شهرنا الشمسي الذي كنا فيه فإذا نحن في اشد البرد في شهر المحرم، وهو يشير إلى شهر يوليو الذي كان يقابل شهر محرم حين كتب له الخبير الأمريكي ذلك الجدول، قبل عقود. فحاولت إفهامه فظن أنني أشاغبه فحنق علي، فتخلصت من حنقه الذي تولد عن ممانعته بأن قلت له «الله أعلم» فرد علي متحدياً «يوم بان الصحيح الله أعلم؟ «هه» الله أعلم»، وما زال بعض زملائي الذين شهدوا الموقف آنذاك يحييني بهذه العبارة إلى اليوم إذا لقيني.
واليوم أصبحت أدرك بأن هذا الجمود على تلقين الأجنبي ليس مقتصراً على ذلك المدرب بل هو مصيبة العمل المهني عندنا والعقبة الكؤود أمام تقدمنا. فهو جمود غالب على كثير من فكرنا وفقهنا وعلومنا ومنظماتنا الحكومية والخاصة، بل والله إني لأشهد بأن ذاك الرقيب خير من كثير منا. فقد عاد الرقيب لنا فقال لي «الظاهر أنت يالحمزة أن وراك علم» وما من علم ورائي فأنا آنذاك لا أعرف الشهور الأجنبية الشمسية، إلا أني أعرف أن يوليو واغسطس تأتي في الصيف، لأني سافرت فيها مرة أو مرتين. وما كانت تلك المعرفة البسيطة أن تنفع اجيال تأتي بعدي، لو ان الرقيب كان معانداً لنصرة نفسه، كغالب من نواجه اليوم. فترى بعضهم يصر على الخطأ ولو أدركه. فمليارات تهدر للدولة أرخص عند بعضنا من أن يُقال أن رأي فلان خير من رأيك، فضلاً أن يُقال أنه كان خاطئاً. بل أن تحسين فكرة «زميل» في لجنة تعتبر من سوء الأدب.
ومن أراد أن يفهم مشكلة مؤسسة النقد فقصتها نسخة طبق الأصل من قصة المدرب ونجم الشمال. إلا أنها تخالفها في نهايتها، فالمدرب عاد وقبل وتعلم، ولكن مؤسسة النقد مشلولة شللاً حقيقياً أمام أي تغيير، إلا أن يأتي الخبير فيضع الجداول بنفسه. ولهذا الشلل سبب قديم. فمؤسسة النقد تأسست بعد انهيار النظام النقد السعودي على ايد أفضل خبراء الأمريكان، الذين وضعوا جداول وقواعد وشروط، وكان اهم هدف لهم آنذاك، ترسيخ فكرة عدم الحياد عنها. فكم يصعب عليهم إقناعهم بعدم طبع النقود وما يتبعه. فترسخت تلك الروح حتى أصبح ما وضعه الأمريكان الأوائل، روح ثقافة المؤسسة. وبعدها وفكم وكم ابتعثت مؤسسة النقد من خيار طلبتنا إلى أعظم الجامعات الأمريكية فعادوا بدرجة الدكتوراة، لكنهم وجدوا انفسهم في نفس الموقف الذي وجدت نفسي فيه مع الرقيب. إلا أنهم استسلموا ورأوا نجم الشمال في الجنوب، لكيلا يصبحوا بلداء ميؤوس منهم. ووالله إن خريج الدكتوراة ولو من هارفرد لا يفقه شيئاً، إنما يملك أدوات الفهم. فإن مُنع من استخدامها، فقد يعود أجهل ممن لم يدرس الاقتصاد أصلاً وهكذا أصبح مناخ المؤسسة محبطاً. فوالله إني قابلت دكاترة شباب في عيونهم ذكاء، قد خبا وذبل بعد تعطيله وقهره ومنعه من العمل وإجباره لرؤية نجم الشمال في الجنوب. شباب كالزهور قد حصلوا على الدكتوراة من جامعات، والله ما كنت لأتجرأ للتقديم عليها اصلاً من علو مكانتها ورتبتها. رأيتهم وأنا أناقشهم في اكتتاب الأهلي، وهم لا يفرقون بين الوديعة والاحتياط ولا يفهمون أصلاً ماهية سوق النقد. فقل لي بالله بماذا تصف من لم تصعقه هذه المصيبة. والمصيبة الأعظم منها، أنك قد لا تجد من يستطيع أن يرى المصيبة. ليست مصيبة جزئية بل كلما تمر الأيام يتبين لي أنها شاملة. ولا حاجة للاستشهاد، فقد أتيت عدة مرات بشواهد منوعة وأنا أعرف جيداً، كيف تُحرف معاني الأدلة والشواهد. فتزوير السيولة 250 مليارا وانكشاف عشرة أيام، يحرف أنه لا مخاطرة تعن البنوك. واقتراض الحكومة من جيبها تُهندس الأرقام والإحصائيات لنفي ذلك.
إن مؤسسة النقد اليوم لهي المتسببة في تطاول المضاربين على الريال، والمتسببة في تهرب الأموال، فهي من ترك سوقنا النقدية المحلية ضعيفة تستجيب لمقامري العالم هنا وهناك. والعالم يعرف أننا لا نفهم حقيقة ما نفعله ولهذا نحن أعجز من أن نبدع مخرجاً لخروج من ورطة أو نجد حلاً ابداعياً لتجنيب أزمة، فمرتزقته يضغطون علينا لتخويفنا وحملنا على قرارات تربحهم وتستنزف احتياطاتنا. البنوك المركزية في العالم كلها تخلت عن أعظم مبادئها، واتبعت اشكالاً وألواناً من الحلول، وفيتش وصندوق النقد يعاملنا على اننا موزبيق، لأننا وضعنا أنفسنا في موضع فهم ومهنية موزمبيق.
والله إن أحب جهة حكومية لي هي مؤسسة النقد، وأحب مسؤول لدي حقيقة لا مجاملة على الاطلاق هو محافظها النقي المبارك _الذي ورث مشاكل المؤسسة_ ، ولكن لم يعد من الأمانة السكوت عنها وأنا أعرف بالضبط خطورته وأثاره. فاللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.