د. حمزة السالم
أن يكون للواحد منا رأي منفرد عن الجماعة هو أمر حديث نسبياً. فالرأي الواحد في المجتمع البدائي كان ضرورة حمائية. وقد جاء انفتاحنا على الرأي الآخر انفتاحاً سريعاً غير مخطط له، ومن قبل فهم المجتمع لمعنى كلمة الرأي، والتمييز بين معنى الرأي لغويا وبين معناه اصطلاحا في عرف حديث الناس. فالرأي في معنى اللغة هو القول النابع من رؤية الشخص. والمعنى اللغوي يتعلق بالذوق أو السلوك أو الهوى، ولكنه ليس له متعلق بالعقل مطلقاً، فلا يلزم أحداً غير صاحبه. والرأي في المعنى اللغوي لا ضابط له ولا ميزان. أما معنى الرأي في الاصطلاح العرفي في مفهوم الإنسانية، فهو الرأي المعتبر وهو الذي يلزم غير صاحبه، سواء بالأخذ به او بالاعتراف بصحته.
وهذا المعنى العملي لا يُصرف إلا للرأي المستند على شواهد واضحة بينة، لا يجحدها إلا مكابر. ويكون رأيا مستنبطا بمنطق صحيح واضح، ودليل صحة المنطق عدم تناقضه واطراده. والناس عندنا لا تفرق بين هذا وذاك، فكل رؤية مخالفة أو منفردة يعتبرها الناس عندنا رأيا يجب احترامه بتنزيله منزلة الرأي المعتبر. وهذا خطأ، لأنه يلزم منه إهانة لعقل المتحدث والسامع. فلا تكون الهذرفة رأيا إلا عند قوم ما قدروا عقولهم فما هي مما يحترم عندهم. والعقل تاج الإنسان، فمتى أهان مجتمع عقولهم، هانوا على الناس؛ فهم إما في مذلة الفقر أو مذلة الاستغلال والسخرية. ومن كمال الطرح التمثيل بالمثال والاستشهاد بالحقائق.
ومن أراد أن يرى مثالاً على احترام العقل عند الأمم المتقدمة، فليتابع بعضاً من جلسات الاستماع في الكونجرس الأمريكي. فلن يعدم أن يرى عضواً حديثاً او موظفاً بسيطاً وهو يؤنب بشدة رئيس الكونجرس أو أحد رجالات الدولة في جلسة استماع أو نحوه. فيرى خضوع الكبير وإطراق رأسه وبدو محيا خجله وعاره وهو يستمع تأنيب وتقريع من هو دونه بمراحل في منصب أو مكانة. وما طأطأ الكبير وتطاول الصغير إلا لأن الكبير عارض الصغير أو حاجه أو رد عليه بقول متناقض في منطقه أو خال من حجة أو شاهد.
فالمجادل بغير منطق أو بردِّ شاهد واضح هو كالكذاب في شهادته جرما، وكالمعتدي على سامعيه إضرارا. فالعقل تاج الإنسان وشاهد ثقافة المجتمع، فالاعتداء عليه اعتداء على الجسد كله وإهانة لثقافة المجتمع كله. فهؤلاء قوم احترموا عقولهم، ولم أصادف قط صغيرا ولا كبيرا منهم؛ عالماً كان أو جاهلاً إلا وتخرسه الحجة والمنطق، وإن كان مناورا أو مفاوضا أو معاديا. فقد نشأوا في ثقافة ربت فيهم احترام العقل والشعور بعار ازدراء المنطق، ولو كان محتالا أو مناورا. تماما كشعور العار عند العربي إن لم يكرم ضيفه ولو كان فقيرا معدما.
ومن أراد شاهداً حاضرا اليوم فدونكم سفيرنا العظيم عادل الجبير. خطابات وردود ونقاشات، نشرف بها أمام العالم. هي مناظرات غالبها مع أعداء أو مخالفين او محايدين أو مصادقين. فبماذا غلب السفير العظيم عدو بلاده، وأفحم مخالفنا وحيد المحايد وكسب تأييد الصديق؟ فمثلا لم ينكر السفير الممثل بلدنا مشرفا لنا حقيقة معروفة، فيفقد مصداقيته مستخفا بعقل محدثه فلا يقبل منه أبداً. بل وظف المنطق ليجعل الحقيقة فخراً لنا أو عاراً على عدوه أو مخالفه. ولم يجحد سفيرنا الملهم، حجة مخالف فيستهين مخالفه بعقله فيستخف به، بل يقر بحجة مخالفه قالباً لها على رأس صاحبها بفن منطق لطيف.
نجح سفيرنا عادل الجبير، فتشرف ببلاده وشرفنا بتمثيله لنا، فيا ترى ماذا لو وضعت الأقدار سفيرنا الملهم في نقاش محلي، لا يرى إلا الانكار للثابت حجة ولا يفهم الا المنطق مقلوباً، ولا يعتبر للعقل احتراما؟ أسأل الله الكريم ألا يمتحن سفيرنا الفارس المناضل، فما أصعب أن يوضع فارس القوم مع صبية القرية وشذاذ القوم.