د. حمزة السالم
عندما ذكر فريد زكريا رأيا اقتبسه من فكرة كاتب، قامت عليه الدنيا في أمريكا وهو المعروف عندهم بالفكر والإبداع وعاقبوه بالمنع والإبعاد رغم اعتذاره وتأسفه واعترافه. فحماية الملكية الفكرية ليس حماية لحقوق صاحبها، بل هي حماية للفكر نفسه. فالفكرة أوالحل أو الإبداع يولد خديجاً ضعيف المقاومة للتحديات. فصاحبه هو الأقدر على تربيته وتنميته حتى يغدو قوي البنان شديد الأركان، وعقلية صاحبه التي استطاعت ابتكاره هي القادرة على جعل التحديات أمصالاولقاحات تزيد الحل قوة والفكرة إبداعاً، فسرقة فكرة أو إبداع مهما ظن السارق سهولة تطبيقها، لبساطتها ولتخصصه فيها، إلا أن السارق في الحقيقة قد قتل مشروعا ضخما من التطوير والنمو، فصاحب الفكرة يرى في كل تحد طريقة تنمية وفي كل تغيير وسيلة تطوير. وانتشار هذا الخلق البئيس في مجتمع يسبب الإحباط للمبدع ولغيره، وبالتالي فسرقة فكرة خديج واحدة قد تمنع تطور مجتمع بكامله، فمن يستطيع حل معضلة أعصت الخبراء والأجيال، يستطيع حل معاضل كثيرة غيرها، لولا أنه أُحبط أو أهمل أو حورب. أيفلح قوم إذا رأى أحدهم ثمرة لم تنضج بعد على رأس شجرة يافعة واعدة، قام فاقتطع الشجرة ليسرق الثمرة.
عقل الشخص المفكر أو المبدع كطائر يبيض ذهبا، إن حط في مجتمع متحضر حط عند من يعرف قدره، فأصبح سلعة غالية يُتسابق عليها فمن ظفر به اعتنى به وهيأ له مناخا ليبيض كل يوم عشر بيضات بدلا من بيضة واحدة، وليكبر بيضه يوماً بعد يوم ويزداد صفاء ونقاء ذهبه يوما بعد يوم، وأما إن حط في مجتمع متخلف فهو طائر متشيطن، يُستنكر صوته وطيرانه، يظنون بيضه الذهبي روثا من روث الجن. وبعض طُماع السُراق قد يميز بين الروث والذهب، فهم يسرقون البيض المرمي المهمل على حافة الطريق، ولكنهم لا يحسنون العناية به، فإما يفرخ عن مسخ أو جيفة.
فبهذا امتلأت بيوتات المجتمع المتخلف بروث الدجاج وعبقت برائحته القذرة حتى ألفها، فأصبحت عبقه الذي يعشقه ويتنفس به. بينما امتلأت بيوتات المجتمع المتقدم بالذهب والزينة وعبق الطيب وشذى الأزهار.
ولهذا ترى المجتمع المتخلف يتوسل المجتمع المتحضر ليبيعه بعضا من قشور بيض الذهب، فيبيعهم بأغلى الأثمان ما استخدم وعطب، والخديج والفاسد والمعاد صهره حتى ما عاد يقيم نفسه. وقد حط الطائر الذهبي بديارهم فزهدوا به، وشيطنوه، وتركوا البيض الذهبي مهملا نهيبة السُراق.
المبدع في الاختراع أو في إيجاد الحلول لا يمكن تواجده في مجتمع لا يستطيع أن يدرك أن الفكرة الأولى في الاختراع أو للحل، هي أول الطريق لا آخره، فهي وإن بدت اليوم فكرة عظيمة أو حلا مناسبا، ولكن سنة الله في خلقه الدنيا قد اقتضت التطور والتدرج فيه. فما بدا عظيما اليوم سيتطور غدا ليصبح أعظم وأكثر. ورب الشيء هو أعلم به، وأعرف كيف يحل مشاكله. فو الله أن إهمال عقل وطني واحد وكبته ومحاربته وسرقة أفكاره، هي وأد للوطن لا له، فصاحب العقل قد يعيش ثرياً أمداً طويلاً.
والمجتمع المتخلف يشجع على الخيانة. فيصبح معلوما فيه أن الموافق الساكت هو المُقدم الممتدح، ذو الخلق، وأن الأمين هو المشاغب ذو الخلق السيئ. أولا يدرك المجتمع كم من الضغوط وأساليب القهر وأقاويل الكذب التي يمارسها البعض على من لا يرضى بالخيانة ليخيفوا الضعيف ويبعدوا الأمين، والرشوة في كل صورها ثمن الخيانة. فمن يقبل الرشوة خائن خسيس. وكم من رجل رفض الرشوة وآلمته الخيانة، فارتفع صوت ألمها فعاد نباحا وعاد مرتشيه ذئبا، وكم من فطن نبه عن خيانة الغريب، فعاد غريبا وعاد الغريب قريبا.
لا يسلم مجتمع من شذاذ الأخلاق، لكنهم في المجتمعات المتقدمة يستخفون في حجور ذلهم، ينتهزون نعاس عين الرقيب أو غياب الحارس الأمين، ولن تستطيع سلطة مهما بذلت ضبط الشذاذ ما لم يكن المجتمع هو الرقيب والحارس الأمين، والمجتمع إذا اعتاد على ثقافة الاعتداء على الفكر واحترام الخيانة، فلن يخرج من حالته إلا إذا رأى السلطة تفضح كبار السراقين وتخنق كبار الذئاب حتى يرتفع عواؤها، فيسمعها القاصي والداني.
إن للعقل والأمانة جلبة وحركة لها صوت وعواصف، وللسكون دعة وسكينة، فلا تجتمع حركة وسكون، غالبا، إلا في متسلل لغرض خفي في نفس وغد شقي.