عبدالعزيز السماري
لا تدخل المواجهة مع الإرهاب الفكري في معترك قضايا الرأي والرأي الآخر أو الاختلاف المحمود، بل هي قضية مصير ومواجهة مع فكر يعيش بيننا وداخل ذواتنا منذ زمن طويل، ويحظى بمكانة رفيعة في عقولنا ومجالسنا، لكنه يقدم عن حسن نية لأعداء الوطن شتى المبررات العدوانية، ومنها مبررات القتل وهدر الدماء، ومهما حاولنا أن ندير وجوهنا عن هذه الحقيقة المؤلمة سنصطدم بها يوماً ما، مهما طال الزمن.
وهل يمكن لوطن أن يحافظ على وحدته وكيانه واستقراره بدون إرهاب، وهناك من يردد من على منابره أن الكافر حلال دمه وماله، وأن المواطنين من الطوائف الأخرى كفار مرتدين ويستحقون القتل، وهل يمكن أن نهزم الإرهاب بدون مواجهة جذوره الضاربة في العمق النفسي والاجتماعي، نحن أمام أزمة ولا يمكن أن ندفن رؤوسنا في الرمال، ثم ننتظر ساعة المواجهة القادمة.
هل يمكن لوطن أن يتطلع إلى أن يصل إلى أعلى مراتب الدول العصرية المتقدمة، وهناك من يفتي بجواز قتل الزميل إذا اكتشف أنه لا يصلي، وهل يوجد دعوة للفوضى والعدمية أكثر من ذلك؟ وهل يُعقل أن يعظ أحدهم بأن من لا يُكفّر الآخرين، أو المشركين حسب قوله، كافر وخارج عن الملة، وإذا كان هذا هو حالنا فما هي إذن المواطنة التي نفتخر بها، وكيف يكون الوطن للجميع، إذا شعرت بعض فئاته بالتهديد والقتل.
لو أعدنا النظر إلى تاريخنا الإسلامي الطويل، سنكتشف أن الجماعات التي قامت على التكفير عاشت في عزلة تاريخية، ولم تستطع المساهمة في الحضارة الإسلامية، بينما ساهمت الدول التي قامت على الاعتدال وفي بيئة للتسامح والتعايش بين مختلف الطوائف والأديان في إثراء الحضارة الإنسانية بالعلم والمعرفة، ومثال ذلك الدولة الأموية والعباسية والأندلس، بينما لم تخلف دويلات الأزارقة والنجدات والقرامطة غير التخلف والدمار والهلاك.
والسبب بكل وضوح، هو أن دويلات الأزارقة والقرامطة والنجدات قامت على التكفير والذبح وهدر دماء المسلمين المخالفين، وكان مصيرها هذا التشرذم والانقسام ثم العزلة، وما زالت العوامل المشتركة بين هذه الفرق وحركات التطرف المعاصر، هو التطرف الشديد في الطرح الديني، وما زالت سياستهم في الماضي والحاضر تسعى إلى أهداف يصعب تحقيقها،كما كانت حياتهم جافة لدرجة القسوة، فيها شدة وغلظة وقسوة واستهانة بحياة المسلمين، وعادة ما تنتشر هذه الأفكار في البيئات المنقطعة عن العالم.
يقدم بعض العلماء المعاصرين الدين بصورة حدية، لدرجة أنه لا يوجد هوامش في طرحهم، فالقضية لديهم إما كافر أو مسلم، ولا يوجد بينهما متشابهات، والحكم لا يخرج عادة من إهدار الدم، وهل ما يجعل من صورة العدو غير واضحة المعالم، فهو في حالة تداخل في أنفسنا وعقولنا، ويعيش أغلبنا حالة صراع بين أفكار الحياة ومواعظ الموت.
نحن نعيش وننام ونصحى ونفكر من خلال أفكار تهدد مستقبلنا ومستقبل أولادنا، وقد تقضي على استقرار الحياة الاجتماعية في الوطن، وتأتي حوادث قتل الأقارب والأصدقاء المتكررة لتعيد التاريخ مرة أخرى، ولتفرض واقعاً لا يحتمل إلا خيار المواجهة مع هذا الفكر، كما كان الأمر في معركة السبلة، التي ولدت حالة من الهدنة النسبية مع التطرف الديني لفترات طويلة، ولا نريدها أن تعود من خلال نفس البوابة.
قد يفهم بعض العامة أن بعض الفتاوي بمثابة دستور مكتوب للتكفيريين والإرهابيين، ولهذا السبب لن تتوقف موجات الإرهاب، وسنستمر نحاربهم في الهامش، ولكن بدون مواجهة صريحة مع الخطر الحقيقي الساكن بين ضلوعنا، الذي يعتبر جزءاً متأصل في ذواتنا لدرجة كبيرة.
وهو ما يطرح السؤال الأخطر عن ما هية العدو في هذه المعركة الغريبة الأطوار، فنحن كمجتمع نتقمص في أحيان خطاب التطرف، وفي أحيان أخرى نظهر في صورة المحارب له..!