د.فوزية أبو خالد
تجتاح نيويورك حيث اتواجد هذه الفترة موجة الثلوج السنوية لشتائها المشهور بقسوته، خاصة على تلك الطبقات الاجتماعية الرقيقة التي عرتها الرأسمالية من المكانة والمال ورمتها نهبا للأرصفة تحت ذلك المسمى السريالي «هوملس» بمعانيه الدرامية السوداء التي ببساطة فادحة لا تعني أقل من «العيش في العراء».
أنظر من علو شاهق عبر المبنى الذي أقيم فيه على الجادة الأولى بنيويورك بقلب منهاتن إلى تلك المساحات المشتعلة بالبياض فتسود الدنيا في عيني وتنقبض أوعيتي الدموية وأنا لا أستطيع أن أرى عبر تلك الضفاف الثلجية التي تحف النهر الشرقي للمدينة بين جزيرة روزفلت وبين منهاتن الا أطفال سوريا والعراق واليمن وليبيا، وقد امتد إلى طفولتهم زمهرير البرد وأخذ يتخطفهم بلا رحمة من أحضان أمهاتهم ويذروهم في مهب المجهول أو الموت.
أنزل إلى الشارع ليس فراراً من أخيلة الطفولة المختطفة من براءتها ولكن بحثا لي ولها عن متنفس لم تلطخ هواءه حرائق التناحر, أغذ في المشي فيشتد خجلي مني ومن ريش الأطفال المتطاير عن يميني وعن يساري ومن خلفي ومن امامي كلما لفحتني برودة طقس تصل إلى 13 درجة تحت الصفر. أتذكر كاتنزاكي ذلك الكاتب اليوناني الشاهق حين كان يلبس حذاءً ضيقاً في المشي على مسالك وعرة ومتعرجة ويسير حافيا في رمضاء سيناء، وأغذ السير في تلك الشوارع النيويوركية المفروشة بالبياض فلا أحس ذلك القطن الثلجي تحت قدمي الا كمسحوق من زجاج.
لا أستطيع أن أعيش هذه التجربة من عنف شتاء نيويورك على بعد خطوات من مبنى الأمم المتحدة بيديها المكتوفتين أمام تفرفط الطفولة من حروب المنطقة وعلى المنطقة دون أن تكتوي روحي وضفائري وابتساماتي ومفاتيح كمبيوتري بلظى الشتاء المخيم على مخيم الزعتري وعلى جحافل المشردين من اوطانهم الفارين باللاشيء من زينة الحياة الدنيا الا ارواح أطفالهم, المعلقين على جانبي شواطئ البحر الابيض المتوسط أو العالقين في مضائق البحر الأحمر أو الطافين في سفن غارقة أو المطمورين في مقابر جماعية.
فإلى متى يتيبس اطفال في اليمن بردا بفعل الحوثي وصالح فتنطفئ بلقيس وتُظلم منصورة وتتفحم ميقات ويقصف برد الشتاء أعواد عبدو وسعيد ومحمد وساري وكأنهم أجساد خاوية من قيمة الحياة؟ إلى متى يتجمد الدم في عروق أطفال الشام فيموت محمد وعلي وتيسير وجمان وحلى وياسين والياس وسارة برداً؟. إلى متى يموتون برداً كأن كلاً منهم ليس إلا يرقة أو ورقة تسقط من صدر أم ينكل بجسدها الشتاء ينهش بطنها الخاوي ويكسر ظهرها العاري أمام ملأ كان بشرا حيا, فحولته فوضى الحرب وتخبط الرؤية إلى ثلث تبلد وثلث لايبالي وثلث فقأ عينيه لئلا يرى روحه تنكسر وكرامته تمرغ في الوحل دون أن يستطيع تمييز العدو من الصديق والمذنب من البريء والقاتل من المقتول. فالكل مسؤول بلا استثناء عن دم شعب الشام واليمن والعراق وليبيا المراق. الكل مسؤول بلا استثناء عن سايكس بيكو بنسختها الشرق أوسطية المكبرة ملايين المرات عن النسخة القديمة بما فيها نحن الذين نظن بأننا لسنا إلا موضوعا لما يقع علينا من تجارب التوحش السياسي والتغول العسكري بسبب من مثل هذا النمط من حسن الظن باستسلامنا.
إلى متى نضع أصابعنا في آذاننا ونخرج عقولنا من رؤوسنا ونقتلع عيوننا من مآقينا لنجاري ما يجري؟ أو نصدق أن كوارث الجوار تجري بيد مقادير لا نقدر على ردها ولا نملك بركة الدعاء عليها؟ فشتات شعب وتهجير أسر بأسرها وتفريغ قرى من كل روح حية وتفتيت إرادات بكامل قواها العقلية وتدمير مدن تاريخية وأحياء كانت تمور بالحياة ليس إلا حريقاً سينمائياً لن يسري إلينا ولن يخنقنا دخانه ولن تعلج أطرافنا ناره أياً كان الغاز والكبريت والمال والنوايا الحسنة والغايات السيئة التي تسببت فيه أو زادت في سعيره.
إلى متى نشخص بشتات رأي وبغموض رؤية لا يضاهيه تاريخ البكاء على هضبة التنهدات ولا تحويل المغول لدجلة والفرات إلى حبر مشرب بالدماء, ولا سقوط القدس بأيدينا في يد الأعداء؟.
كأن قدرتنا مثقفين وشعوباً وأكاديمين وعلماء شلت، أو كأن العقل والفكر المستقل قد تبرأ منا، أو كأننا لم نكن في معلقات حب الحرية وحب الأوطان غير حفنة غرة وحفنة أدعياء.
أين نخبئ رؤوسنا بعد أن خلنا أننا رفعناها في الربيع العربي؟ فخاننا التأويل وتحول الحلم إلى كابوس لسنا فيه إلا ضحايا أو كومبارس أو بلطجية بعمم ونياشين أبطال , فلم يبق إلا أن ننكفئ من جديد ننقب في تواريخ الهزائم ونستعيد بمزيد من العزة بالإثم كوارث كربلاء.
كيف لنا أن نعيش؟ كيف يطيب لنا شراب؟ وكيف يطاوعنا منام؟ أو يستقر تحت ضلوعنا فراش؟ كيف نستحل الطعام؟ كيف لا تنشقّ حناجرنا؟ أو يقفل عنا مجرى الهواء ونحن نلوك الصمت أو نجتر كلاما مستهلكا مثل هذا؟ بينما كارثة أطفال سوريا واليمن والعراق وليبيا تعرض على الشاشات كفيلم رعب بربري كلنا نؤدي فيه دور الأشرار ببطولة مطلقة.
غير أني لا أظن إلا أنه إمعاناً منا للقيام بدور الأشرار ببطولة مطلقة في فيلم تقتيل الأطفال على يد البرد ليس إلا, فإننا لا نريد ولو إشارة بمدى تلطخ وجوهنا ودفاترنا وطعامنا وكل أشكال كتابتنا وضمائرنا بدم الأبرياء.
كما أن الله لا يغير بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وكما أنه كما تكونوا يولى عليكم , فإن أقدار الشعوب لا تختلف عنها، فالشعوب القوية تصنع اقدارا تملكها والشعوب الضعيفة تنتج أقدارا منكسرة مشتتة يسهل التلاعب بها.
ليس هذا الكلام استعادة للهجاء النزاري عن حال العرب على وجه التحديد, ولكنه فيض المرارة ونقد الذات قبل الآخر، علها تشكل محاولة للتغلب على جبننا في الحديث عن جبننا، فربما الاعتراف بما يعانيه الكاتب مثل غيره من شتات الأمر والفكر يشكل ريشة لحرية التفكير والبحث عن فهم رشيد عقلاني لما يجري وعن مسؤوليتنا فيه وعنه.
وأختم بهذه التغريدة المستعرة المستعارة من بثينة العيسى «الطفولة خارج الحسبة. خارج رقعة الشطرنج. خارج حروب الوكلات اللئيمة وخارج المصالح».
وبتغريدة أخرى مستعارة من رسيس «أؤمن بالحرية بكل مشتقاتها وأكره القمع بكل مشتقاته واكره الذين يمتصون دم الشعوب ويمتصون دم القصائد».
وأخيراً أحب البرد وأعشق فصل الشتاء وبي شغف بالثلوج والمطر والرياح ولكني أقشعر مما يثيره البرد في عظامي من حنق على الحروب عدو الأوطان وعدو الأطفال وعدو الحرية. وليس أشرس من حروب لا تذري الأوطان فقط ولكن تضع الطفولة في مهب الشتاء وتضع ضمائر الأمة وعقولها في مهب الريح.
وما بعد أخيرا, كتب عبدالحميد الملهي من اليمن وقد كان في وقت بعيد زميلاً بالجامعة تغريدة تقول: «تكاد تتجلط مشاعرنا من بأس الاقتتال على الأطفال خاصة وقد دخل الشتاء لدرجة أن تتقمصني أحيانا حالة مهيضة من الاكتئاب حزناً على إنسانيتي المختطفة بيد الحروب.
أسرتني عبارة الإنسانية المختطفة, فعلاً من الفظيع أن اشتداد الحروب قد يدجن الحس فنفقد القدرة والرغبة على الانتفاض عليها والعمل على إيقافها أو على الأقل استنكارها ومساءلة أنفسنا عن مسؤولية كل منا الشخصية فيها.