د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تبرز الحاجة اليوم للقوة الناعمة أكثر من أي وقت مضى؛ فقد تقدم العالم في مجالات التواصل والاتصال بشكل مهول، وزاد مع ذلك تقاربه وتداخل سكانه. ومن أهم انعكاسات تداخل وتقارب العالم بروز بعض القيم التي تبناها العالم كقيم إنسانية..
.. أصبح الالتزام بالأساسي منها ضروريًّا لتكوين علاقة سوية وبناءة مع ما يسمى بالأسرة الدولية. فالجميع يبحث عن قيم مشتركة، تسهل التقارب والتعاون، وتبعد سوء الفهم والجفاء والقطيعة. واختلال التوازن بين أي شعب وهذه القيم التي ينظر لها على أنها عولمية لا يخدم قضايا هذا البلد أو ذاك، ويزيد من عزلته؛ لذا يبرز دور الإعلام المنظم اليوم قبل أي وقت مضى لخلق الانسجام المطلوب بين الذات ومحيطها العالمي. ويحتاج إعلام اليوم قبل هذا وذاك لذكاء وتخطيط استثنائيَّيْن. وعندما يكون بلد ما في مقدمة العالم في العطاء الفعلي، وفي مؤخرته في الشكر والثناء، فلا شك أن هناك خللاً ما.
فالصورة الإعلامية الجيدة أضحت اليوم ضرورة، وهي قد تفتح أبوابًا كثيرة، كانت من قبل موصدة، ولكنها لا تبنى بين ليلة وضحاها، بل تستغرق وقتًا طويلاً وجهدًا مضنيًا للاكتمال والتبلور، وتحتاج لجهود أكبر للحفاظ عليها. وتسعى الدول دائمًا إلى أن تكون صورتها الإعلامية في العالم أفضل من واقعها، أو على الأقل متوائمة معها بصدق، ولكن لا تقبل بأي شكل أن تكون هذه الصورة أسوأ من الواقع. وتبذل الدول الغالي والنفيس لتحسين صورتها الإعلامية الخارجية، وقد تجامل الدول في بعض قضاياها الداخلية إذا ما اتضح أن كلفتها الإعلامية الخارجية أكبر من مردودها المجتمعي الداخلي؛ فلا شيء يخفى في عالم اليوم.
والنجاح الإعلامي الخارجي لا يتحقق بالانتصار على الآخر، كما يعتقد الكثيرون، ولا بإسكاته أو بخلق ذرائع يصعب بها على الآخر اختراقها، ولا بخلق محيط محتمل من سوء الفهم والصور غير المكتملة، أو - وهذا هو الأسوأ - بالتقوقع والقطيعة معه. فالفضاء الإعلامي العالمي الخارجي أصبح مظلة واحدة، والدول تتعامل معها بحساسية بالغة، وتحرص على التأقلم والانسجام مع مستجداتها بقدر الإمكان. كما أن الشعوب في المجتمعات أصبحت تأخذ ما تتناقله وسائل الإعلام على محمل الجد، وأصبح الفرد يتلقى البرامج والصور من مصادرها لحظيًّا بلغات مختلفة على جهاز هاتفه. ونجاح الإعلام خارجيًّا يرتبط كثيرًا بمنطقية وإنسانية المواقف التي يتصدى لها، ومدى انسجامها مع يعتبره العالم قيمًا إنسانية أساسية. والإعلام مطالب بتحقيق التقارب والتوازن الفكري والقيمي بين الذات والمحيط الخارجي لتحقيق هذا الانسجام.
مجتمعات كثيرة عبر التاريخ خسرت الكثير في سبيل الدفاع عن قضايا عُرف سلفًا أنها خاسرة، ثم أدركت فيما بعد أنها كسبت الكثير بالتخلي عنها. فنظام جنوب إفريقيا تخلى عن قناعة اجتماعية بالفصل العنصري، تمسك بها طويلاً على أنها أحد ثوابته، وتبيّن فيما بعد أنها كانت رهانًا خاسرًا؛ لذا فالدولة لم تندفع في اتجاه معاكس بعد التغير، وحرصت على إبراز تمسكها بالقيم العالمية والتقارب معها، ومن ذلك ربحت الكثير. واليوم جنوب إفريقيا تعيش فتره سلم وازدهار، بينما دول أخرى حصلت فيها تغيرات مشابهة تمزقها الحروب الأهلية لاختلال توازناتها القيمية. فالإعلام الإقصائي يقصي الذات قبل الآخر، ولا يورث إلا الفرقة والدمار. وجميع شعوب العالم تتبني القيم العالمية ليس بالضرورة لقناعة تامة ومطلقة بها، ولكن إدراكًا للدور الذي تلعبه في التوازن العالمي؛ لذا يخطئ من يعتقد أن السياسة يجب أن تقود الإعلام في الأحوال كافة، بل إن للإعلام دورًا يلعبه في توجيه السياسة؛ ليقويها، ويسهل مهمتها ومهمة انسجامها مع محيطها العالمي. وقد يكون الحق في قضية ما مع مجتمع ما، ويقلبه الإعلام ضده، ليس بسبب القضية ذاتها ولكن بسبب قضايا أخرى، ينظر لها على أنها تتعارض بشدة مع قيم إنسانية، سلم العالم أجمع بها، فتختزل فيها صورة المجتمع الذهنية العامة، وتكون بمنزلة «البريزم» الذي يرى العالم هذا المجتمع من خلالها.
ومعروف أن العالم مر بمرحلة تحولات كبرى فيما بعد الحرب العالمية، تمحورت حول الحريات العامة للشعوب والأعراق، وإلغاء العبودية، ومنح مزيد من الحقوق للمرأة والطفل على أنها العناصر في المجتمعات التي تحتاج للحماية. وقد شكلت مرحلة امتلاك الرقيق آنذاك عبئًا إعلاميًا كبيرًا على كثير من الدول العربية والإسلامية. ورغم أن الإسلام لا يحرم امتلاك ذوات الأيمان غير أن الملك فيصل - رحمه الله - بما كان له من بصيرة نافذة، وخبرة عملية راسخة في العمل الخارجي، أمر بالمنع الفوري للرق نظامًا، وبتحرير الرقيق كافة، وكان ذلك في توقيت رائع. وعلينا فقط أن نتصور صورتنا في العالم لو أن مجتمعنا تأخر في ذلك. ولا شك أن العالم لديه صورة مغلوطة تمامًا عن أسلوب تعاملنا مع المرأة في مجتمعنا، وهي صورة مكلفة، وندفع مقابلها ثمنًا إعلاميًّا باهظًا. فنحن مثلاً سبقنا كثيرًا من دول العالم في مجال تعليم المرأة، وهناك مجالات عمل مهمة في مجتمعنا متاحة للمرأة، مثلها مثل الرجل: التعليم، الصحة وممارسة الأعمال.. إلخ. والمرأة دخلت مجالات مهمة كالشورى والتمثيل الخارجي وغيرها. والأهم هو أن الدولة لا تفرق في الرواتب بين المرأة والرجل. ولكن هذا كله - للأسف - يضيع في الصورة التي يتداولها العالم عن تعاملنا مع المرأة؛ إذ طمستها أمور تافهة أقل أهمية بكثير، إلا أنها في صورتنا الإعلامية أكثر حضورًا وبروزًا.
وهنا لا بد من التوقف قليلاً عند قضية إعلامية مهمة، هي ما يسمى بالبروز الإعلامي media saliency، وهو أن أمرًا ما قد يبدو تافهًا ضمن وجهة نظر معينة، لكنه بالنسبة للآخر يبدو مهمًا وبارزًا؛ لأنه يشكِّل تناقضًا صارخًا مع ما يؤمن به أو تعود عليه؛ لأنه يراه من منظار قيمي مختلف عاجز عن استيعابه. وقضية عدم قيادة المرأة السيارة في مجتمعنا أخذت أكبر من حجمها، وتحولت للقضية الأكثر بروزًا في تقييم العالم لتعاملنا مع المرأة في مجتمعنا، وعندما يضاف لها بعض الممارسات الخاطئة هنا وهناك التي تنقلها وسائط الإعلام الاجتماعي، وتضخمها، تكتمل - وللأسف - الصورة الخاطئة التي يتناقلها العالم عن مجتمعنا، الصورة التي تطمس في نظرهم جميع المنجزات العظيمة التي حققناها في وقت قياسي للنهوض بالمرأة.
فالملك فيصل - رحمه الله - اتخذ قراره بحزم؛ لأنه أدرك أن قضية الرق قد تصبح عبئًا ثقيلاً عميقًا على سمعة المملكة في الخارج، وستؤثر على مستوى تواصلها مع العالم وقدرتها على التأثير فيه؛ ولذلك كنا أيضًا في طليعة الدول التي اتخذت قرارات مماثلة في فرض تعليم الفتاة، وفي إدخال التلفزيون، وغيرها من قرارات تحديثية، اتضح فيما بعد أنها كانت إيجابية بشكل لا حدود له في الحفاظ على توازن مجتمعنا، وإشراك جزء مهم كان مهمشًا عنه في لعب دور طبيعي وطليعي فيه. فقد كانت قرارات الملك فيصل - رحمه الله - رغم مواجهتها بمعارضة قوية من بعض فئات المجتمع قرارات بعيدة النظر، قرارات للمستقبل، ولصالح الدين والدنيا، ومن انتقده بالأمس هم أكبر المقبلين على الاستفادة مما أنجزه اليوم.
نحن اليوم في عهد سلمان الحزم، والمملكة التي تنطلق بشكل قوي فعال غير مسبوق في المنطقة والعالم، والعالم اليوم قرية واحدة، وجماعة واحدة، وقد بنهبنا رسولنا الكريم بأن يد الله مع الجماعة، وألا ضرر ولا ضرار.