د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
نستغرب جميعا من استمرار الصراعات في منطقتنا بلا نهاية وكأنها قدر محتوم تاريخيًا علينا. صراعات متعددة الأشكال والأسباب بين أطراف متباينة ظاهرياً لكنها متشابهة في عمقها إلى حد كبير. وقد توصل الدارسون لأسباب الصراعات التاريخية إلى
نتائج متشابهة وهي أن الحروب تشن بسبب تعمّق وتغوّل النظرة الضيقة ذات البعد الواحد لدى الشعوب. وهذه ظاهرة متكررة في معظم الظروف المتشابهة حتى اعتقد بعض المؤرخين أن التاريخ يعيد نفسه، والتاريخ يعيد نفسه أحيانًا من حيث المضمون وإن اختلفت الإعادة من حيث الشكل. وليس أدل على ذلك من أن أمتنا الإسلامية أعادت وتعيد إنتاج بعض صراعاتها على الأسس ذاتها بشكل دوري منذ فجر الإسلام، وهذا يستدعي النظر في دوافعها وأسبابها.
وعندما يتغّول الفكر الأحادي، إذا جازت التسمية، فإنه يتحول لفكر دوغمائي مشحون يرى العنف والإقصاء ليس أسلوباً مقبولاً فقط بل واجبا. ويرى علماء التاريخ والاجتماع ارتباط العنف التاريخي بالتبني العميق للفكر الدوغمائي الأحادي، سواءً مارس هذا الفكر أفراد أو جماعات، أو دول، وسواءً كان هذا الفكر الدوغمائي عرقياً، كما كان الحال في الحروب العالمية، والحروب الاستعمارية، أو ديني أو مذهبي كما هو حال منطقتنا. فالفكر الأحادي يشل قدرة الفرد على التفكير ويحوله لأداة لممارسة العنف في يد من يوجهه. وتخرّج المجتمعات الدوغمائية أفراداً مبرمجين فكرياً بشكل يجعلهم ينظرون للعالم من حولهم بعدسة فكرهم الضيق لا يختبرون قناعاتهم بما يحدث في العالم الواقعي من حولهم بل ينتقون من الواقع ما يناسب قناعتاهم الفكرية فقط. فتغيير القناعات بالنسبة للفرد الدوغمائي الذي يتبنى عادة فكر قطعي يسبب توتراً وقلقًا فكري ونفسي لا يستطيع التعايش معه، وقد يفضل الموت على التحول الفكري والاضطرار للعيش بقناعات جديدة مجهولة، ومن أهم أسباب جاذبية الفكر الدوغمائي الراحة النفسية والفكرية التي يقدمها تفسيره المبسط للعالم بما لا يضطر الفرد للمرور بالمطبات الفكرية المقلقة أحيانا. ويزداد الفكر الدوغمائي تطرفاً كلما ازداد تناقضه مع ما حوله، ويحتاج إلى جرعات جديدة من التطرف من وقت لأخر لتجاوز ترهله المرحلي.
وينتشر الفكر الدوغمائي بشكل كبير وسريع بين فئة الشباب، الفئة الأكثر اندفًاعا وعنفوانًا، ومرحلة الشباب هي مرحلة الالتفاف حول الأقران. ويلائم الفكر الدوغمائي القادة المتطرفين الكاريزميين أكثر من اصحاب الفكر الوسطي لأن شعاراته المتطرفة، وإجاباته القاطعة تزيد من شعبيتهم بشكل تلقائي بين أتباعهم. كما أن هذا الفكر يحتاج دائماً إلى عدو يتوحد الأفراد ضده يصور كخطر داهم عليهم، ووجوده خادش لكرامتهم، حتى ولو لم يكن كذلك. وتثبت الوقائع التاريخية أن ما من عنف إلا ويسنده اعتقاد أحادي بشكل يحتم التخلص من كل من يعارضه. والحد من انتشار العنف لا يتأتى إلا بالحد من انتشار التطرف الفكري الأحادي أياً كان مصدره.
وبنظرة أولية للدول العربية في العقد السابق نلاحظ انتشار العنف بشكل غير مسبوق، سواءً في دول ما سمي بدول الربيع العربي، أو مؤخراً في دول الصراعات الطائفية وهي صراعات لا تكون حول أماكن نفوذ فقط بل صراعات هدفها محو الآخر، أو تهجيره. ورغم تغير أنماط السلطة في دول عربية كثيرة إلا أنها لم تستقر، وما استقر منها استقر نسبياً بالحلول الأمنية فقط التي تقضي على كل ما يطفو على السطح بينما تترك العمق يمور بعنف مستقبلي محتمل. فالاستقرار النسبي في تونس مثلاً كان أسرع منه في ليبيا حيث كان الحكم السابق في ليبيا متطرفاً بشكل قابله تطرف مماثل من معارضيه.
معضلة العالم الإسلامي والعربي في بعض مراحل تاريخه هي معضلة الفكر الأحادي، الفكر الذي لا يقر الاختلاف ولا يستطيع التعايش معه، ولذا وللأسف وفي غالب الأحيان يولد الفكر الأحادي فكر مضاد هو في طبيعته أحادياً أيضا، وتبقى الصراعات بين الأطراف المتصارعة صراعات مستدامة بين معسكرات أحادية التفكير تتداول السلطة بحيث تكون استدامة الصراعات حتمية لأن ما يحصل هو تبادل للأدوار فقط بينما تبقى طبيعة التفكير التي تغذيه شاخصة ماثلة. ولو صدقنا بمقولة التدخل الخارجي لإذكاء الصراعات الإقليمية في منطقتنا لوجدناه يبحث دائماً عن الزعامات أحادية التوجه لدعمها سواء من الاتجاه القومي أو الاتجاه الديني، فبريطانيا وقبلها فرنسا دعمت الإخوان المسلمين في مصر، بينما دعمت أمريكا عبدالناصر في حرب السويس. وكانت فرنسا نابليون تدفع الأموال لإقامة الاحتفالات بالمناسبات الدينية، وكان نابليون يحرص على مجالسة بعض رجال الدين المرموقين الداعمين للوجود الفرنسي، ويلبس عمامة مثلهم لدرجة دفعت البعض للقول أنه أسلم. وأمريكا سلمت الحكم في العراق لحزب الدعوة بعد التحرير مع معرفتها التامة بتطرفه وطائفيته ودوغمائية تفكيره بدلاً من خلق عراق ديمقراطي متعدد للجميع.
فاستدامة الفكر الأحادي هي استدامة للصراع العسكري، ولو نظرنا لما حدث ويحدث في بعض الدول العربية والإسلامية التي حصلت فيها تغييرات سياسية نلحظ غياب قابلية هذه الدول للاستقرار لأنها استبدلت إيديولوجيات أحادية الفكر بأخرى تتبع النمط الأحادي ذاته مما جعل الصراع يتواصل حتى ولو انتصر أحد الاتجاهات مرحليا. فالثورة المصرية على سبيل المثال لم تصل لحال الاستقرار حتى اليوم لرفض عبدالناصر اقتراح محمد نجيب بتأليف حكومة ديمقراطية متعددة الأطياف وتبنى فكر استمرار الثورة بفكر اشتراكي قومي أحادي أدخله في صراع مع الاتجاهات الإسلامية. والمعارضة المصرية لحكم العسكر في مصر بما فيها معارضة الإخوان المسلمين ومعارضة السادات لما سمي مراكز القوى كانت دائمًا معارضة أحادية الفكر ولذا لم تشهد مصر، بكل ما لها من إمكانيات، مرحلة استقرار حقيقي حتى اليوم. وهذا هو ما حصل في إيران ما بعد الشاه حيث تبنى الملالي نمط حكم دوغمائي مغرقاً في المذهبية. ولكن لو نظرنا لدول أخرى حدثت فيها تغييرات مشابهة مثل جنوب إفريقيا، أو فيتنام لوجدنا استقرار تبع الصراعات بسبب تبني سياسات منفتحة متسامحة مع خصومهم.
ولذا فاستقرار الدول مرتبط بمرونتها في استيعاب التيارات المختلفة، والاستماع للأصوات الأخرى، واحداث نوعاً من التوازن والتعيش بينها. فحضور الأصوات الأخرى ليس مهمًا لتوازن المجتمع وإضفاء التنوع الفكري عليه فقط، ولكنه مهم جداً لمنع تغول الفكر الأحادي وتحوله لفكر قمعي إرهابي. ودول المنطقة تتكبد خسائر كبيرة لا قبل لها نتيجة لتدوير الصراعات، خسائر من ثرواتها الناضبة، وخسائر من أجيالها الشابة القادرة على العمل، والأسواء هو أن الحروب تخرج أجيال أمية تعيد التنمية في المنطقة لنقطة الصفر. فالحكمة تتطلب إيجاد صيغ من التعايش والتكافل تضمن عدم استدامة الصراعات. ففي تاريخ الدول الأخرى الكثير من العبر والدروس.