د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
نتكلم مؤخراً بإسهاب عن التنمية البشرية وأهميتها؛ لعلها تعويض عن أنماط التنمية الأخرى، وأطلقنا عليها مصطلحات عدة، كثير منها مجازي، مثل: الاستثمار في الإنسان، مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة، إلى آخر ذلك من العبارات الوردية ذات المدلولات المتقلبة. ونضرب مثلاً باليابان، جزيرة صغيرة بلا موارد، وتعد
من أغنى الأمم، أو بكوريا التي اقتحمت عالم الهواتف النقالة، أو سنغافورة التي تطورت في ثلاثة عقود من الزمن.. ولنقرب المثل لواقعنا نعرج على ماليزيا الإسلامية التي تؤكد أن الدين الإسلامي لا يقف عائقاً أمام التنمية البشرية. والقانعون منا ينظرون لدبي وربما قطر بعين الغبطة؛ إذ إن هاتين الإمارتين تتطوران في مجال التنمية البشرية بشكل لافت مقارنة بالعالم العربي المتراجع.
التنمية البشرية تختلف بشكل جذري عن تزويد البشر بالمعارف، وتختلف كثيراً عن الابتعاث بشكل غير مقنن، وتختلف أيضاً عن تخريج طوابير الشباب بشهادات جامعية، بعضها يأتي نتيجة الحضور في الجامعة فقط. التنمية البشرية تتعلق ببناء الإنسان السليم جسماً، وعقلاً، ونفساً. بناء إنسان متفائل محب للحياة قادر على التكيف والتعايش مع الظروف ومع غيره من البشر. وعكس التنمية البشرية هو إنتاج أجيال عليلة الأجساد، غير سوية التفكير، متشائمة ومترددة نفسياً، ومنغلقة على نفسها.
وقد يكون أقل هذه الجوانب من حيث الأولوية البناء الجسماني، رغم أن الصحة مهمة ومكلفة، يليها البناء العقلي المرتبط بأمرين جوهريين: القدرة على التفكير النقدي، والقدرة على الاستقراء بشكل سليم. أما البناء النفسي فهو ما يعكسه التفكير السوي في السلوك بشكل يحكمه العقل لا العكس. ولا نحتاج من أجل ملاحظة هذه الجوانب الثلاثة إلى أي دراسات «مترية» من أي نوع، ولا إحصائيات مطولة، ولا شركات استشارية عالمية. فهذه العوامل الثلاثة لها مظاهر سلوكية واجتماعية وحضارية، يلحظها الجميع من أول وهلة. فما إن تطأ قدمك بلداً ما تستطيع عند توافر الحد الأدنى لك من القدرة على الملاحظة أن تعرف مدى نجاح التنمية البشرية في هذا البلد.
تلحظها أولاً في المطار، أو مباشرة عند دخول الحدود، تراها في مدى نظافة المداخل، وبنية البشر، وانتظامهم، وهندامهم، وسلوكهم.. فعندما تصل مطاراً آسيوياً متقدماً، حتى ولو لم يكن المطار ضخماً أو فخماً، تلاحظ أن البشر لهم قوام رشيق وهندام أنيق، وقبل هذا وذاك تلاحظ انتظامهم، وحسن تعاملهم، ونظافة مطارهم. والعكس عند دخولك مطار بلد تنميته البشرية أقل؛ تلاحظ أن المطار فوضى، والناس تركض في الاتجاهات كافة، بطون غالبيتهم متدلية، وقيافتهم غير متسقة. وقد يوجد في المطار الثاني رجال نظام أكثر، وعمال نظافة في كل مكان، إلا أن هذا لا ينعكس على نظام المطار أو نظافته؛ فالنظام والنظافة قضيتان سلوكيتان تنبعان من العقل أولاً، وتنعكسان على السلوك ثانياً؛ فلا شيء يمكن أن يفرض النظام إلا الانتظام، ونظافة العقل هي التي تفرض نظافة المكان.
تخرج من المطار وتبدأ تلقائياً بالانتباه لوسائل النقل؛ لأنها هي أول ما يهمك في ذلك الوقت. وهناك عامل مشترك بين الدول المتخلفة بشرياً هو النظر للقادم سائحاً أو مواطناً كصيد ثمين، يمكن الاقتتال حوله! وتجد الكثير من السماسرة والسائقين يحاولون إغراءك بالخروج من النظام؛ لأن الفوضى في هذه المطارات أكثر كفاءة من النظام. ويساعد على ذلك غياب المواصلات العامة: قطارات وحافلات، أو وجودها وعدم انتظامها، أو سوؤها. وما إن يغنم بك سائق حتى يبدأ بالكلام الشخصي معك، وربما يعرض عليك خدمات أخرى، كالسكن والترفيه، وهدفه في كل هذا رفع قيمة أجرته. سائقو الأجرة هنا يتصرفون حسبما تعلموه من مجتمعهم، وهو أن (الفذلكة) و(الشطارة) أكثر فعالية من النظام. بينما في الدول ذات التنمية البشرية العالية النظام فوق الجميع، والمواطن تتوافر له خيارات مختلفة، لكنها متقاربة: القطار نظيف، الحافلة نظيفة والتاكسي نظيف. الفرق فرق الوقت وقليل من الراحة.
تخرج من المطار فتجول بنظرك بلهفة في الشوارع والطرقات. فالبلدان ذات التاريخ الجيد في التنمية البشرية تجد شوارعها منتظمة، وبناياتها متراصة، وتخطيطها دقيقاً ومريحاً، إشارات شوارعها واضحة، وأرصفتها مدروسة، وشوارعها مقسمة: جزء منها للمارة، وجزء للدراجات، وجزء للحافلات، وآخر للسيارات، ولا تداخل ولا فوضى بينها. كما تلاحظ أيضاً انتظام المجاري وغياب المستنقعات عن الطرق، وحسن تنظيم اللوحات والدعايات. وإن وجدت حاجة لعمل أو إصلاح لاحظت انتظام التحويلات وقِلّتها؛ فالتحويلات في البلدان المتطورة لا تبقى لأعوام.
أما البلدان ذات التنمية البشرية المتعثرة فستبدو لك كساحات معارك ورعب؛ البناء فيها عشوائي، والطرق متفاوتة من طرق جميلة وأحياء راقية بشكل مفرط لأخرى في منتهى التواضع، بها طرق كلها خرائب، ومستنقعات، ومكبات قمامة، ومواد بناء.. كما تلاحظ كثرة الإشارات الساقطة، وحواجز الطرق المصدّمة، واللوحات العشوائية، وسوء وعشوائية تخطيط الأحياء. كما تلاحظ «المجارير» تسيل في بعض الشوارع، والطرق عموماً محفرة، وصيانتها سيئة. كما تلاحظ كثرة السيارات الخردة، وأخرى تنبعث منها الأبخرة و»الدخاخين» من سوء الصيانة. كما تشاهد الكثير من العربات المصدومة.
وبعد هذا وذاك تبدأ في ملاحظة سلوك البشر وهندامهم، وتعابير وجوههم؛ لأنها تنطق بتنميتهم بمختلف جوانبها. وأول ما تلاحظه هو أسلوب قيادتهم؛ فصاحب العقل المنتظم، والنفسية السليمة، يفكِّر باستعمال الطريق بشكل منتظم، وقد تعوّد على النظام في منزله ومدرسته وجامعته؛ لذا يتعامل مع الطريق بشكل متعقل، يحترم حق المارة والآخرين. أما السائق الذي ينعدم في حياته الانضباط، ويكون تكوينه الفكري والتربوي ضعيفاً، فيكون كـ»الزنبور»؛ إذا شك بشوكة يتحرك بعشوائية في الاتجاهات كافة؛ لا يحترم الآخرين، ولا يفكر في العواقب؛ وذلك لخلل في تفكيره، وضغط يعانيه في سلوكه؛ يجعله لا يرى في الطريق إلا نفسه؛ فهو يرى نفسه وحيداً في الطريق، وقيادته بعشوائية لا تؤثر على النظام، ولا يدرك أن هذا قد يكون تفكير الآخر أيضاً. ومن مكامن القصور الفكري لدى بعض الناشئين والبالغين في الدول ذات التنمية البشرية الضعيفة عدم القدرة على التفكير بعقل الآخر.
تنتهي من الطرق فتبدأ في التفكير في الأمور الأخرى كالسكن، والطعام، والترفيه.. فإذا سكنت في فندق أو شقة فستلاحظ أولاً نظافتها، خاصة الأرضيات، والملاءات، والمراحيض.. فلا يمكن أن تدخل فندقاً في بلد متطور بشرياً وتلاحظ أن شخصاً قد جرّب المرحاض قبلك، أو سبق أن دخل وجلس على السرير. كما لا تلاحظ الحشرات والقوارض، ولا حروق السجاد أو رائحة «الطبيخ».. كما أن التفكير بعقل الآخر يلعب دوراً مهماً هنا؛ إذ إن الفنادق في البلاد المنتظمة يتوقع القائمون عليها ما قد تحتاج، ويوفرونه لك، وربما يزيدون على ذلك إضافة بسيطة؛ ليُشعروك بأنهم فكَّروا فيك، ومهتمون بك. أما البلدان ذات التنمية الضعيفة فلا تلبث أن تلاحظ أن هناك عدم اكتراث هنا وهناك، ومحاولة التوفير في النوع والكم بالطرق كافة؛ لأن الربح يأتي أولاً، والسمعة والنظام يأتيان ثانياً! كما تلاحظ هندام العاملين؛ فتميِّز بين الهندام النظيف الذي يدل على أن العامل متعلم، وراتبه معقول، وسكنه مريح؛ يتيح له الاستحمام. وعكسه الموظف ذو الهندام المتهدل من كثرة الغسل السيئ، ورائحة عطره الفاقع تختلط براحة جسده النفاثة من قلة الاستحمام وسوء السكن.
والحال ذاتها تنطبق على المطاعم وعلى البشر في الشوارع؛ فأنت ستحس بشكل تلقائي بمدى سعادة البشر وتفاؤلهم؛ لأن ذلك ينعكس على قسمات وجوههم، وعلى سلوكهم. فالشعوب المتفائلة تتصرف بشكل سريع وتلقائي معقول، ولا تتحرج؛ لأنها تعرف أن الآخرين لديهم ما هو أهم من مراقبتهم؛ لذا تبدو على قسماتها الارتياح والانشراح. أما الدول ذات التنمية البشرية الأدنى فيتصرف البشر فيها بشكل سريع أحياناً، لكنه «عصبي»، يتبادلون النظرات القاسية المليئة بالارتياب. ورغم أن الأفراد في المجتمعات المتخلفة بشرياً يبالغون في استقبال الوافد وكرمه؛ لأنهم يرون فيه شيئاً مختلفاً، إلا أن هذا الاستقبال لا يُشعره بالارتياح؛ لأنه مصطنع ومبالَغ فيه.