د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
عندما يأتي ذكر المناطقية فإني أحمد الله أني ولدت خارج منطقة أسرتي وفي مدينة تعد من أكثر المدن تنوعاً مناطقياً ألا وهي مدينة الطائف. فقد ولدت وترعرعت مع أقران أهلهم قادمون مثلنا من مختلف مناطق المملكة وفئاته، وأطيافها وألوانها. واعتاد الناس في الطائف على التعايش والتكافل وتفهم بعضهم بعضاً
بصرف النظر عن الاختلافات الثقافية الطفيفة التي أضفت على المدينة الصغيرة تنوعاً ثقافياً مذهلاً. وقد منح الملك فيصل - رحمه الله - حق اللجوء لمسلمين من وسط آسيا اضطهدهم السوفيات وأسكنهم في الطائف فزادوا التنوع الثقافي تنوعاً وبريقاً. ولا يزال إسهام هذه الفئة الإيجابي في الثقافة السعودية ماثلاً حتى اليوم، فلم يُعهد عن أي منهم - رغم الحاجة والفقر - أن مدَّ يده متسولاً أو طالباً المساعدة، بل عرف عنهم العمل الجاد، والإخلاص في العطاء والتعامل. وكان والدي - رحمه الله - يصر على مقاسمة أفضل قوت بيتنا مع جارنا المريض الذي لم يكن من منطقتنا، لأنه بالنسبة له لا مجال للتفكير المناطقي في مراعاة حق الجار حتى ولو تطلب ذلك حرماننا منه. وكانت النساء تتزاور والأسر تتزاوج. وكانت حفلات الزفاف تُظهر بشكل رائع مدى التكافل في المنطقة. ويلحظ المرء المناطقية في الصيف فقط حيث يفد الزوار من المناطق كافة للتصييف وزيارة أقاربهم حاملين معهم منتجات مناطقهم. ورغم التعايش الجميل لم يتحرج الناس ذكر مناطقهم والتفاخر بها، لأن ذلك لا يفهم منه قط الانتقاص من قيمة المناطق الأخرى، فالتنوع والتكافل الاجتماعي كان موجوداً في أرفع صوره.
لكنه كان ملاحظاً رغم ذلك، ربما لأمور ثقافية واجتماعية، إقبال أفراد بعض المناطق بشكل خاص على قطاعات عمل بعينها، واختصاص أفراد من مناطق أخرى بأمور أخرى واشتغالهم بها. فهناك من يقبل على السلك العسكري، وآخرون يقبلون على العلوم الشرعية، وآخرون على التجارة، وغيرهم على صناعة الطعام وهلم جراً. فالمهن والحرف والأعمال تتوارثها الأجيال لأسباب في عمقها اجتماعية وثقافية. فالعسكرية تجذب المناطق والفئات التي تعلي من قيمة الشجاعة، والعلم يجذب تلك التي تعلي من قيمة الاطلاع. وكان هناك نمط واحد من الاستقطاب في مدينة الطائف بين من يطلق عليهم «الحضر» وغيرهم ممن ليس توصيف إلا أنهم «غير حضر» لأن كثيراً منهم لم يكن من البادية. وكان وصف حضري يطلق على كل من يسكن مناطق معينة هي بالطبع الأرقى والأغنى حتى ولو كان ابن عمه يسكن حي «غير الحضر».
وفي الآونة الأخيرة بدأ بعض الناس يتداول المناطقية ويثيرها بنغمة مختلفة، وقُصدوا به التفرقة في الوظائف والأعمال بمختلف مستوياتها وخاصة تلك التي تتعلق بالعلوم الشرعية. وقد أطلق هذه التوصيف بداية على فئة بعينها ثم عُمِّمَ على منطقة ضخمة من المملكة. ولا شك أنه إذا ثبت أن هناك ممارسات مناطقية بالشكل الذي يتداوله بعض الناس فهو أمر غير محمود، وغير مقبول. ولكن هناك بعض الأسئلة بهذا الصدد التي تجب صراحة الإجابة عليها: الأول، هل من المعقول أن ينجرف نقد المناطقية إلى ممارسة مبررة لها من الفئة التي تنتقدها؟ وهل هذا الانتقاد المشروع للمناطقية يشمل جميع المناطق أم يختص بممارسة أبناء منطقة معينة؟ ثم هل المناطقية سيئة بشكل مطلق أم لها جوانب إيجابية؟
للإجابة على السؤال الأول لا بد من الشفافية والصراحة، وهي أن النقد يأتي غالباً من أناس يبدون وكأنما هم ينتقدون المناطقية لتبرير ممارستها ربما بأقصى أشكالها تطرفاً، ولكنهم لا يرون في ذلك غضاضة مادامت المناطقية فصلت ولُبِّسِتْ أبناء منطقة بعينها. وهنا سأذكر مواقف قليلة جعلتني أتعجب من ممارسات بعض من أعجني نقدهم المستمر للمناطقية. فقد حصل ونشرت مجلة «أهلاً وسهلاً»، التي تصدرها الخطوط السعودية، مقالاً لي كتبته باللغة الإنجليزية عن بلدة «أشيقر» التاريخية لمجلة «الدبلومات» الذي يصدرها المعهد الدبلوماسي، ليس ذلك فحسب بل ونسبته إلى كاتب هندي، فاتصلت بالمسئول عن العلاقات العامة في الخطوط مشتكياً مما حصل، واقترحت عليه إذا أحب أن أكتب لهم مباشرة. فكان رده وبدون اعتذار طبعاً: إذا أردت أن استكتب للمجلة استكتبت فلاناً، وفلاناً، وعدَّد لي أسماء جميعها من منطقة معينة وليس منهم من يكتب باللغة الإنجليزية، ولم يخطر ببالي أن أفسر هذا الأمر على أنه تفكير مناطقي لأنه يتكلم عن محيطه الذي يعرفه. وهناك بعض الكتاب الذين صدعونا بالكتابة عن المناطقية إلا أنه من الملاحظ أنهم لا شعورياً يحصرون معظم اهتماهم فيما يكتبون في مناطقهم فقط، ولا يعلقون ولا يبرزون إلا كتاباً من مناطقهم. وفي أحد الفترات كان جميع عمداء ووكلاء جامعة كبرى من منطقة بعينها من منطقة أخرى ولم يصرخ أحد مناطقية! بل وأن مدير مكتب أحد الوزراء، يكتب في أحد الصحف مفاخراً بأنه جعل عيال الحمايل يدخلون مكتبه مطأطئي الروؤس. وفي بعض البلدات الصغيرة التي ترأس فيها مديرون من منطقة معينة إدارات كبرى زاد أبناء منطقته بشكل آثار استغراب أبناء البلدة نفسها. فنقد المناطقية مطلوب ومهم ولكن الامتناع عن ممارستها، والتوقف عن التشكيك بالآخرين أهم.
والمناطقية موجودة في أنحاء العالم كافة، وهي - ولله الحمد - آخذة بالتلاشي في بلادنا، ولكن قد يكون للمناطقية أوجه إيجابية يجب عدم إهمالها، منها خلق دافع مهم لدى الناس للاهتمام بمناطقهم بما لا يتعارض مع وطنيتهم ومحبتهم، وربما نسبهم، مع مناطق أخرى، ففي المحصلة النهائية الوطن أهم من المنطقة. والكاتب يتفهم لماذا يعين رئيس قسم الشرطة أو أي من فروع الأمن من خارج المنطقة حتى لا تتدخل الأمور الشخصية في عمله. ولكن لو تكلمنا عن الإدارات الأخرى كالتعليمية أو الصحية فقد يكون لتعيين ابن المنطقة جوانب إيجابية من أهمها أن تستغل حماسته لمنطقته وحرصه على سمعته بين أبناء منطقته بشكل إيجابي لبذل مزيد من الجهد لخدمتها، وسيكون محط مراقبة أبناء منطقته وعشيرته ومحل تطلعاتهم، وقد يمنعه ذلك - لا سمح الله - من التقصير أو غيره من الأمور الإدارية غير المحمودة.
وهناك أمر ملاحظ وليس مخترعاً، لأنه موجود في كل أنحاء العالم، وهو أن كثيراً من الأثرياء يتوجهون لدعم الأعمال الخيرية والتطوعية في مناطقهم ومساقط رؤوسهم، وهذا أمر جيد مع أن الأفضل منه هو أن يتصرفوا بشكل مثالي ويدعموا كل المناطق أيضاً، ولكن غياب الدعم الثاني لا يعني رفض الأول. فالمناطقية ليست حصراً في الجوانب الوظيفية بل وتمتد للجوانب التطويرية أيضاً.
والامتداد الأوسع للمناطقية هي القطرية، وهي متوسعة وممارستها مشاهدة بكل أشكالها السلبية في أمور كثيرة، ولكنها لا تنتقد بالقدر نفسه من الصلافة ممن عودوا أنفسهم على اتهام الآخرين بالمناطقية. وتتجلى مظاهر القطرية أحياناًً في حفلات الأعراس، وفي جوانب التوظيف أيضاً. فبالرغم من أن الثري سعودي المولد والمنشأ إلا أنه يحرص إظهار التمسك والاحترام لجذوره القطرية، وهذا أمر محمود ولا يتعارض مع كونه سعودياً. وهنا يمكن مثلاً لبعض الأثرياء من بالغي الثراء في المملكة، أخلاقياً ووطنياً، أن يسهموا في تنمية بلدانهم التي حررتها أو ستحررها جيوش التحالف حتى لا تكون عرضة لفتك الفقر والمرض والبطالة لتعود أسوأ مما كانت، فالحفاظ على مكاسب الوطن هو أكبر احتفاء به. ونحن هنا لا نتهم أحداً بالتقاعس لا عن واجبه في المساهمة في تحرير بلاده ولا بالتقاعس في تنميتها، أو حتى التقصير في الجهود الإغاثية لمتضرريها لأننا متأكدون أن هناك جهوداً كبيرة تبذل في هذه المجالات لا نعلم عنها. فالوطنية لا تنحصر فقط في إقامة حفلات الأعياد والأعراس الباذخة باستدعاء مغنين وفرق من دول مسقط الرأس بل الاقتداء بالأثرياء الأجانب الذين يملكون الشركات التي تمنح وكالاتها في المملكة والعالم العربي، فلهم إسهامات لا تحصر في تنمية أوطانهم.
والله من وراء القصد.