إبراهيم عبدالله العمار
عام 2004م كان عازف الغيتار الأمريكي دايمباغ ديريل يعزف في حفلٍ موسيقي مع فرقته. فجأة قفز رجل على المنصة، وأمسك برأس دايمباغ، وأطلق عليه النار فأرداه قتيلاً. أخذ يطلق النار على الحضور الذين ذعروا وتراكضوا هاربين. انقض حارس الفرقة عليه، لكنه عوجِلَ بطلقة قتلته. ركض رجل ليسعف الحارس فأتته رصاصة فيها حتفه. هجم آخر على القاتل يحاول انتزاع المسدس لكن القاتل كان كبيراً قوياً؛ فغلبه، وأطبق على رقبته بخنقة قوية، وتشتت انتباهه لما رأى رجال الشرطة أمامه، الذين لم يقدروا أن يفعلوا شيئاً لئلا يؤذوا الرهينة، واختبؤوا خلف سواتر اتّقاء رصاصاته. ووقتها تسلل الشرطي جيمس نيغاماير من الباب الخلفي، ورأى القاتل وهو يمسك رأس الرجل بيد، ثم يصوب مسدسه إلى رأسه؛ فأيقن أنه سيقتل الرهينة، فصوب نيغاماير بندقيته إلى القاتل بحذر. في تلك اللحظة انتبه القاتل إلى أن هناك شيئاً خلفه فالتفت.. والتقت العينان.. أطلق الشرطي النار على رأسه فسقط الجسد الضخم مدوياً. ينجو الرجل الذي كان على وشك الموت، وينجو بقية الحضور ممن لم يقدروا أن يهربوا.
هذه من أشهر القصص الحقيقية في الموسيقى الأمريكية. وأُبِّنَ الموسيقار ديريل من قِبَل بقية عازفي الروك الذين فوجئوا بهذه الحادثة. لماذا فعل القاتل فعلته؟ اتضح فيما بعد أنه مريضٌ عقلي، هجر أدويته، وكانت تتناوله الأوهام والهلوسات، منها أن ديريل سرق منه أغاني!
القتل ليس غريباً على المجتمع الأمريكي؛ بل كل يوم يُقتَل أكثر من 40 شخصاً، غير أن ما شد انتباهي في حادثة مقتل ديريل هو ما حصل للشرطي الشجاع نيغاماير الذي قتل القاتل، ومنعه من أن يقتل المزيد من الناس (القاتل كان لديه 35 رصاصة إضافية!).
عندما نسمع هذه القصص البطولية نتصور الآتي: الشرطي ينزعج لأنه قتل شخصاً، لكن يأتيه الثناء بسبب بطولته، ويعرِف أنه فعلها مضطراً لينقذ حياة الرهينة، وسرعان ما تعود الأمور لنصابها، وينظر الشرطي لتلك الحادثة بفخر؛ لأنه أدى عمله وأنقذ الأبرياء.
لكن ليس هذا ما يحدث دائماً. إن النفسية البشرية معقدة، ولا تسير على نفس الوتيرة. ولنرَ ما يقوله الشرطي نيغاماير.. يقول إنه بعد أن قتل القاتل وقف مفكراً وسط المعمعة: «ماذا حدث؟ ماذا فعلتُ؟». رجع لبيته، وجلس، وأخذ يشاهد شريط الحادثة، ويسأل: «لماذا أيها القاتل؟ لماذا فعلتَ هذا؟». أيقن أنه لو لم يتصرف لقتل القاتل رهينته، ولقتل غيره، بل لا شك أن نيغاماير نفسه سيكون ضحية. لكن هذه الأسباب السليمة لم تكفِ لتُزيل عن نفسه أثر فعلته.. أنه قتل إنساناً. نعم، إنسان مجرم. نعم، إنسان نوى أن يقتل المزيد، لكن القتل ليس هيناً على النفس. أتته الكثير من التهنئات والتشجيع، ووصفه الناس بالشجاعة والبطولة. شَكَره المجتمع، حتى أم المقتول أرسلت له أنها لا تضمر أي ضغينة، وأنها تتفهم لِمَ قتل ابنها.
لكن كل هذا لم ينفعه نفسياً. قابلوا نيغاماير بعدها بعشر سنوات، وفوجئ الناس أن نيغاماير ظل كل السنين العشر الماضية يُعالَج نفسياً بسبب الصدمة من تلك الليلة السوداء، وأنه ترك عمله في الشرطة. وعرفنا أنه أصيب باضطراب ما بعد الصدمات، وكذلك نوع عنيف من القلق المَرَضي.. وقال: «كم أتمنى أن تلك الليلة لم تحصل. أنا راضٍ أنني أنقذت الناس، لكن تلك الليلة أضرّت حياتي».
لا يوجد أبيض وأسود في النفسية البشرية. إنها بالغة التعقيد والدقة، وكثيراً ما تأتي بما لا تتوقعه.