إبراهيم عبدالله العمار
ماذا تعرف عن القراءة؟.. هل تظنها مجرد عملية عقلية عادية؟.. لا؛ إنها أعظم من هذا بكثير!..
هذا مما أتى في كتاب «المياه الضحلة The Shallows» للكاتب العلمي نيكولاس كار، وهو كتب شرح فيه ما تفعله الإنترنت بالعقل البشري، وكيف أنها تُعوّد العقل -رغماً عنه- على التشتيت والاضطراب، وهذا التشويش أظن كلنا أو أكثرها بدأ يشعر به، والموضوع ضخم وللإنترنت مضار كثيرة بالتفكير والعقل عموماً لكن من أبرز ما أتى في الكتاب هو مقارنة بين استخدام الإنترنت وبين القراءة من الكتب المطبوعة، وكم هو شاسع الفرق!.
استخدام الإنترنت (حتى للقراءة) تجربة مختلفة تماماً عن القراءة من الورق، وهذا ما يشعر به العقل نفسه، فالقراءة على الأجهزة تمتلئ بالتشتيتات كالروابط الموجودة في النص والدعايات وإشعارات الرسائل والكثير غير ذلك، ناهيك عن أن الوسط نفسه -أي الحاسوبي والرقمي- يفرض على مخك أن يفكر في الرسائل الإلكترونية والمحادثات والأخبار، أما القراءة من الورق فانظر لأبحاث علمية حديثة عن التأثير المخي للقراءة العميقة والتي أظهرت شيئاً مشوقاً: في دراسة في جامعة واشنطن نُشرت عام 2009م، فَحَص الباحثون أدمغة قارئي القصص باستخدام تقنية تصوير الدماغ، وجدوا أن القارئ يحاكي ذهنياً كل مشهد جديد يراه في سياق القصة.. تفاصيل الأحداث والأحاسيس، يأخذها من النص ويُركبها بتناغم مع تجاربه الماضية. مناطق المخ التي تُشغَّل تقلد المناطق التي تعمل عندما يقوم الناس بأعمال حقيقية أو يتخيلونها أو يرونها. تقول العالمة القائمة على هذا البحث إن القراءة العميقة ليست ممارسةً خاملة.. بل إن القارئ يصير الكتاب.. لم يكن لتراثنا الأدبي أن يتكون بدون التبادل الحميم بين القارئ والكاتب من خلال الكتاب. بعد اختراع غوتنبيرغ للطباعة عام 1447م توسعت حدود اللغة بتسارع، وذلك ليحاول الكُتّاب التنافس على أعين القراء الذين زادوا ثقافة واطلاعاً، وصار الكاتب يسعى أن يعبر عن أفكاره ومشاعره بطرق أوضح وأجمل وأذكى. مثلاً كلمات اللغة الإنجليزية التي كانت مقتصرة على بضعة آلاف توسعت إلى مليون كلمة لما انتشرت الكتب. الكثير من الكلمات الجديدة حوت معاني تجريدية لم توجد من قبل. أخذ الكتّاب يجربون في تركيب الجمل وفي الإنشاء، وفتحوا طرقاً جديدة للتفكير والتخيل، ومشى القراء في هذه الطرق.
مع توسع اللغة تَعمّق الوعي، وهذا التعمق تجاوز الصفحة. يقول كار إن القراءة وكتابة الكتاب حسّنت تجارب الناس مع الحياة والطبيعة، ويقول أحد العلماء إن براعة الأدباء الذين قدروا أن يحاكوا التذوق واللمس والشم والسمع وذلك فقط بالكلمات.. هذا تَطلّب من الكتّاب وعياً وفهماً عالياً ومعاينةً قريبة للأمور الحسية، وهذا ما نقلوه للقارئ. الكاتب -مثل الرسام والموسيقار- استطاع أن يغيّر الإدراك بطريقة أغنت إحساس القارئ بالمواقف والظروف بدلاً من أن تقللها.. طريقة زادت تعاطف وتفهّم القارئ لأنواع مختلفة من البشر بشتى أنواعهم وألوانهم وظروفهم وتجاربهم. إن الكلمات في الكتاب لم تقوّ قدرة الناس على التفكير التجريدي فحسب.. بل أغنت تجاربتهم مع العالم المحسوس، العالم خارج الكتاب.
ما أحسن القراءة العميقة الهادئة.. إنها تضاعِف حجم وجودة العالم الذي تعيش فيه أضعافاً.