أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
إن المتأمل والمدقق والناظر بعين العقل والإنصاف في واقع المملكة العربية السعودية وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وفقه الله، يعاضده ويؤازره صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، ولي العهد، ووزير الداخلية، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي ولي العهد، ووزير الدفاع حفظهما الله تعالى، يرى ما يسره ويثلج صدره ويجعله يغتبط ويتفاءل بمستقبل مشرق واعد وذلك من خلال ما نراه من حرص وعمل دءوب صادق ومخلص وموجّه من أجل الحفاظ على هذا الوطن وعقيدته، ومقدساته وأمنه ومواطنيه والمقيمين فيه ومكتسباته ومقدراته، وما يرافق ذلك من التعب والسهر وانشغال الفكر وبذل الجهد، وكل ذلك انطلاق من العقيدة السلفية ذات القيم الوسطية المعتدلة ومبادئ الشريعة الإسلامية السمحة، ومقومات ودعائم هذا الوطن العظيم والرقي به.
وإن من الجهود المشكورة، والأعمال الموفقة - بإذن الله - ما سمع الجميع به من تحالف إسلامي عظيم ضم عشرين دولة إسلامية في عُدد قوية من طائرات ودبابات وأسلحة ثقيلة، وأعداد كبيرة من الجنود المدربين المؤهلين المستعدين للدفاع عن دينهم وأوطانهم لتكوين جيش إسلامي كبير في شمال المملكة العربية السعودية في القيام بتدريبات عسكرية ضخمة والتي عُرفت باسم : (رعد الشمال).
والله سبحانه وتعالى قد أمرنا بإعداد العدة، والتسلح بالقوة، لإرهاب العدو وتخويفه ودحره فقال تعالى : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا استطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال : 60]، وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال : 65].
وقد جاءت الشريعة بمشروعية الدفاع عن النفس والمال والعرض فكيف بالدين، قال ابن القيم في الفروسية (ص 187) : (فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل ولهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه، كما قال الله تعالى : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}. وقال النَّبِي - صلى الله عليه وسلَّم - : «من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد». لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على المال والنفس مباح ورخصة، فإن قُتل فيه فهو شهيد). أهـ
وقال تعالى : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله}. قال ابن جرير الطبري في تفسيره (9 / 162) : (فقاتلوهم حتَّى لا يكون شرك ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، ويكون الدين كله لله، يقول : وحتَّى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره، وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل). ثُمَّ ساقه بإسناده عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وغيرهم - رحمهم الله - اهـ.
وقال ابن دقيق العيد كما نقله ابن حجر في الفتح (6 / 5) : (لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضيلته بحسب فضيلة ذلك). اهـ.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره : (ثُمَّ ذكر تعالى المقصود من القتال فِي سبيله، وأنه ليس المقصود به سفك دماء الكفار وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن يكون الدين لله تعالى، فيظهر دين الله تعالى على سائر الأديان، ويدفع كل ما يعارضه من الشرك وغيره، وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود فلا قتل ولا قتال). اهـ.
وما تلك الاستعدادات والعمليات العسكرية إلا بعض جهود حكومة هذه البلاد المباركة في نصرة الحق، ودفع الباطل، وحماية الإسلام والمسلمين من شرور المعتدين، وظلم الظالمين، واعتداء المفسدين، ودحر الإرهاب والتطرف والغلو وأهلها، والمنكر وزمرته.
إن هذا العمل عمل عظيم يستحق الإشادة والثناء، والوقوف مع قيادة هذا الوطن المخلصة من أجل تحقيقه وتأييدهم بالقلم والكلمة والكتابة واللسان والسنان، وبذل كل ما يعينهم ويقويهم وينصرهم على أعداء الملة والدين، كلٌّ بحسب تخصصه وقدرته وإمكاناته؛ لأن الحفاظ على هذا الوطن حفاظ على الدين الإسلامي، والدفاع عنه دفاع عن مبادئه وأحكامه وثوابته وبلدانه والنفس والعقل والعرض والمال، وهو حفاظ على الحرمين الشريفين.
ولقد سُرَّ الجميع وفرحوا واستبشروا بما سمعوه من تصريحات سمو ولي ولي العهد ووزير الدفاع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - من خلال ذلك المؤتمر الصحفي الإعلامي الوطني الإسلامي العالمي المهيب المتميز عن العمل الذي من أجله حصل التحالف الإسلامي الذي مقره الرياض، حيث جاء في تصريحاته الكريمة : إن التحالف يضم مجموعة من الدول الإسلامية التي تشكل أغلبية العالم الإسلامي، وهذا يأتي من حرص العالم الإسلامي لمحاربة هذا الداء الذي تضرر منه العالم الإسلامي أولاً قبل المجتمع الدولي ككل. وأضاف قائلاً : اليوم كل دولة إسلامية تحارب الإرهاب بشكل منفرد، فتنسيق الجهود مهم جداً، من خلال هذه الغرفة سوف تتطور الأساليب والجهود التي ممكن نحارب فيها الإرهاب في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وأكَّد الأمير محمد بن سلمان أن التحالف الإسلامي العسكري سينسق مع الدول المهمة في العالم والمنظمات الدولية في هذا العمل، مشيراً إلى أن التحالف سيحارب الإرهاب عسكرياً وفكرياً وإعلامياً بالإضافة إلى الجهد الأمني الرائع القائم حالياً. أهـ
إذن هذا التحالف الإسلامي الكبير جاء في منظومة جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله وصوره، وفي زمن ووقت وظرف أحوج ما نكون إليه.
وهو تحالف متميز، وإضافة قوية فاعلة جدية حازمة للرفع من قيمة ومعنويات أبناء الأمة الإسلامية بصفة عامة وأبناء المملكة العربية السعودية بصفة خاصة، وقد قدمت المملكة العربية السعودية من خلاله أنموذجاً حياً واضحاً وملموساً يستفاد منه في توحيد الصف الإسلامي والدول العربية في مواجهة الشر وأهله، وعلى رأس هذه الشرور الإرهاب، ولذلك فإنَّ الشكر لله على قيام هذا التحالف العسكري الإسلامي لمكافحة الإرهاب ومواجهته، ثم الشكر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده وولي ولي عهده، لأنهم قاموا بعمل جليل وكبير سوف يسطره التاريخ وتذكره الأجيال بكثير من الإعجاب والشموخ والعزة.
وإن هذا التحالف الإسلامي الكبير تحجيم، بل قضاء على المد الطائفي الصفوي الإيراني الذي يهدد أمن واستقرار المنطقة، ولا شك أن التعصب الطائفي الصادر من إيران ليس جديداً بل وجد عبر مراحل وأزمنة متنوعة في التاريخ، ولكن الله يخذلهم ويردهم على أعقابهم خاسرين خاسئين، يقول الشعبي - رحمه الله - عن الرافضة كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في منهاج السنة النبوية (1 / 34) : (وَدَعْوَتُهُمْ مَدْحُوضَةٌ، وَرَايَتُهُمْ مَهْزُومَةٌ، وَأمرهُمْ مُتَشَتِّتٌ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). وقد زاد خطرهم ومحاولتهم النيل من عقيدة الأمة في العصر الحديث، وذلك عبر طرق ومناهج متنوعة ومتعددة نرى اليوم أثرها وتأثيرها من خلال ما تقوم به إيران الفارسية من مخططات عجيبة غريبة لتحقيق أهداف توسعية واضحة وذلك عن طريق إثارة الفتن والقلاقل، واحتواء بعض الجماعات والتنظيمات والأحزاب التي يستغلونها للوصول إلى مطامعهم المشينة، بل وأبعد من ذلك دعم كل فئة مارقة خارجة عن دين الله ومعادية لبلاد التوحيد وقبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم المملكة العربية السعودية، كل يوم نطالع ما هو أشد وأسوأ مما يقومون به في هذا الاتجاه، ولكن الله - سبحانه وتعالى - كشف أمرهم وأبطل كيدهم، وتصدت لهم هذه الدولة - حفظها الله - بحزم وعزم وقوة بقيادة وتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله -.
ونرى بوادر النصر ظاهرة بينة من خلال ما قامت به دولتنا سواء في الحد الجنوبي من دحر تلك الفئة المارقة الخبيثة وتلقينها درساً لن تنساه هي ومن شاكلها أو أيدها أو تعاطف معها بإذن الله، ثم ما تقوم به حكومتنا الموفقة المسددة من دعم الشرعية الدولية في عدد من البلدان العربية والإسلامية، وسيكون الأمر أفضل وأجمل وأكثر جلاء ووضوحاً وإيجابية في المستقبل - بإذن الله - من خلال هذا التحالف الإسلامي، ولا بد من أجل النصر والعزة أن نتعاون ونتعاضد، وأن نلتف حول ولاة أمرنا ونقف معهم وقفة حازمة قوية صادقة مخلصة تتفتت عليها دعاوى المبطلين والحاقدين.
ولا بد أن نعلم بأن الولاية المسماة بولاية الفقيه ولاية فاسدة وخبيثة ولها مقاصد وأهداف خطيرة حاقدة كارهة، وهي غطاء لعمل سياسي فارسي صفوي حاسد بغيض تقوم به هذه الطائفة والفئة المتطرفة المتعجرفة، تغطي من خلاله كل أعمالها لينخدع بها أنصاف المثقفين والذين في قلوبهم مرض ومن شوشت أفكارهم ومن لهم آراء - نسأل الله العافية والسلامة - بعيدة عن المعتقد الصحيح.
وإن من النقاط والأمور المهمة جداً والتي تلفت الانتباه وتعطي هذا العمل أهمية قصوى مما جاء في كلمة سمو ولي ولي العهد ووزير الدفاع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - حيث أشار إلى أن التحالف سيحارب الإرهاب فكرياً وإعلامياً، ولا شك أن ذلك غاية منشودة، بل إنه وأد للإرهاب وزمرته ودحر لدعاته والمروجين له لئلا ينتشر ويستفحل في المستقبل، فيجب التركيز على محاربة الإرهاب من جهة العقيدة والفكر، لأن أصل الإرهاب وما وقعت به هذه الجماعات والأحزاب والتنظيمات من داعشية وصفوية وغيرها من الغلو الاعتقادي، أو ما يُسمَّى بالغلو الكُلِّي.
وهذا أصلُ منشئِه في هذه الأمّة منذ عهد الرَّسول - صلى الله عليه وسلَّم - يحكيه الحديث الصحيح الذي جاء فيه : أنه لما قام الرَّسول - صلى الله عليه وسلَّم - يقسم الغنائم في غزوة حُنين، فأعطى أناساً أكثر من آخَرين، وذلك تأليفاً لهم وتحبيباً من أجل أن يدخُلوا في الإسلام ويزداد الإيمان في قلوبهم، قام رجُلٌ فقال : اعدِل يا محمَّد! إنّ هذه قسمةٌ ما أُريدَ بها وجهُ الله! فغضب الرَّسول - صلى الله عليه وسلَّم - وقال : «إذا لم أعدِل فمن يعدِل». ثم قام أحد الصحابة - وذكروا أنه خالد بن الوليد - فقال : دعني يا رسولَ الله أضربُ عُنُقَه. فقال - صلى الله عليه وسلَّم - : «لا، حتى لا يتحدّث الناسُ أنّ محمَّداً - صلى الله عليه وسلَّم - يقتُل أصحابَه». ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - : «يخرُج من ضئضئ هذا قومٌ تحقِرون صلاتَكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يُجاوِزُ حناجِرَهم، يمرُقون من الإسلام كما يمرُق السَّهم من الرَّميّة، يقتُلون أهلَ الإسلام ويدعون أهلَ الأوثان، والله لئن لقيتُهم لأقتُلنّهم قتلَ عاد».
ثمَّ ظهر بعد ذلك أتباعٌ لهذا المنهج الغالي في عهد عثمان - رضي الله عنه - ثم في عهد عليٍّ - رضي الله عنه -، وكان قتل عثمان وعليّ نتيجة هذا الفكر المتشدد المنحرف والمنهج الفاسد.
وقد لقيهم عليٌّ - رضي الله عنه - وقابلهم وواجههم وقاتلهم، ثمَّ رأى «ذا الثديَّة» الذي أخبر عنه الرَّسول فحمِدَ اللهَ أن تحقّق وعدُ رسوله - صلى الله عليه وسلَّم - على يديه.
وهذا المبدأ يترسَّمُه أقوامٌ أو فئةٌ من الناس تُسمَّى الخوارج، ولها أسماء متعدِّدة، وهؤلاء هم الذين خرجوا على عليّ - رضي الله عنه - وطالبوه بالحكومة، فلمَّا استجاب لهم كفّروه وكفّروا أصحابَه واستنكروا عليه الحُكم، وأرسلَ إليهم ابنَ عباس فحاجَّهم وقابلهم بكتاب الله - عز وجل - وسُنّة رسوله - صلى الله عليه وسلَّم -، فرجع منهم عددٌ كثير، ولكن بقي منهم من بقي، ثمَّ ظلّ شرُّهم وفكرُهم هذا يظهر تارةً ويخبو أخرى.
وفِكرُ هؤلاء في هذا الزمن. وَفق ما نراه من بعض الناس، أصبح أشدّ خطراً، وأعظمَ أثراً، وأنكى ضرراً ممَّا كان عليه عند السَّابقين من أربابه؛ لأنّ السابقين من الخوارج كانوا يظهرون ويبرُزون ويناقشون ويُحاجُّون وجهاً لوجه، أمَّا خوارج هذا العصر فإنهم لا يأخذون بهذا المسلك ولا يقبلونه، وإنما سلكوا طُرُقاً لم يسلُكها من سبقهم.. غالية في الفكر المتشدِّد النابع من الحقد والكراهية، وما يترتّب عليها من الفساد والتخريب تدرك من خلال ما نسمع ونرى من أعمال هذه الفئة.
وهذا الغُلوّ حذّر منه الله في كتابه فقال - جلّ وعلاَ - : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء : 171]، وقال سبحانه : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة : 77]. وهذا الخطاب - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير - رحمهما الله - موجَّهٌ إلى أهل الكتاب ولكنه عامٌّ يشمَل أمَّةَ محمَّد - صلى الله عليه وسلَّم - فهي منهية عن الغلو في الدين زيادة أو نقصاً.
والرَّسول - صلى الله عليه وسلَّم - يقول مُحذِّراً من هذا الداء، كما في حديث ابن عباس : «إيَّاكم والغُلوَّ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ».
كما يُحذِّر من سلوك طريق الرَّهبنة والتشدُّد الذي وقع فيه النصارى : «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإنَّ من كان قبلكم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الدِّيارات والصوامع، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم».
والأحاديث في هذا كثيرةٌ ومعلومة.
قال ابن كثير في البداية والنهاية (8 / 316) : وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاس مَنْ أَغْرَبَ أَشْكَالِ بَنِي آدَمَ، فَسُبْحَانَ مَنْ نَوَّعَ خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي الْخَوَارِجِ إِنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أولئك الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعمالهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}، [الْكَهْفِ : 103]. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةَ الضُّلَّالَ، وَالْأَشْقِيَاءَ في الأقوال والأفعال، اجتمع رَأْيُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، وتواطأوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم - ممن هم على رأيهم ومذهبهم، مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا - فَيُوَافُوهُمْ إِلَيْهَا، وَيَكُونُ اجتماعهم عليها.
فقال لهم زيد بن حصن الطَّائِيُّ : إِنَّ الْمَدَائِنَ لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، فإنَّ بِهَا جَيْشاً لَا تُطِيقُونَهُ وَسَيَمْنَعُوهَا مِنْكُمْ، وَلَكِنْ واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، وَلَا تَخْرُجُوا مِنَ الْكُوفَةِ جَمَاعَاتٍ، وَلَكِنِ اخْرُجُوا وحداناً لئلا يفطن بِكُمْ، فَكَتَبُوا كِتَاباً عَامّاً إلى مَنْ هُوَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَمَسْلَكِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا وَبَعَثُوا بِهِ إِلَيْهِمْ لِيُوَافُوهُمْ إلى النَّهْرِ لِيَكُونُوا يَداً وَاحِدَةً عَلَى النَّاس، ثُمَّ خَرَجُوا يَتَسَلَّلُونَ وُحْدَانَا لِئَلَّا يَعْلَمَ أحد بِهِمْ فَيَمْنَعُوهُمْ مِنَ الخروج فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وَفَارَقُوا سَائِرَ الْقِرَابَاتِ، يَعْتَقِدُونَ بِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ أَنَّ هَذَا الْأمر يُرْضِي رَبَّ الْأَرْضِ والسَّموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زيَّنه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسؤول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات. أهـ.
وهذا قول علم من أعلام الأمة له الباع الطويل والقدح المعلى في معرفة التاريخ وحقائقه والدروس والعبر المستفادة منه يسطر هذا الكلام ويقرر هذه المعاني قبل ما يزيد على ثمانية قرون، وكأنه يعيش بيننا اليوم ويتأمل في واقع حالنا وما وصل إليه الأمر في عقول ونفوس بعض أبنائنا والطرق والمناهج والأساليب والأدوات التي يستخدمونها ويستغلونها للخروج على جماعة المسلمين وأئمتهم وارتكاب العظائم من الجرائم وتفريق الأمة وتمزيقها وامتحانها بما لم يأمر به الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلَّم -، وقد ذكر من خلال ما سقناه جوانب مهمة ومعاني دقيقة لا بُدَّ أن نتأمل فيها وندقق في معانيها، ومن أبرز ما ذكره مما يتوافق فيه أعمال اللاحقين بالسابقين من المنتسبين إلى هذه الطائفة والفئة المنحرفة الخارجة عن كل مبادئ الشريعة وأحكامها وما دعت إليه:
أولاً : أنهم يريدون امتلاك المدائن والبلدان وإقامة دولة على أنقاض أفكارهم ومناهجهم الغالية المتطرفة.
ثانياً : دعوتهم لكل من وافقهم على منهجهم وطريقتهم اللحاق بهم والاجتماع معهم في الأماكن التي يحددونها لهم.
ثالثاً : ما يقوم به الخوارج القعدة من تأطير وتنظير وتنظيم وإشارة وفتاوى وأحكام لمن هم في الميدان، فها هو زيد بن حصين الطائي يضرب مثالاً واضحاً على ذلك بما وجّههم إليه من خلال ما ساقه ابن كثير - رحمه الله -، ونحن نرى هؤلاء الذين يسيرون على نهج هذا الرجل الخارجي يفعلون دور هذا النوع من الخوارج عبر وسائل مختلفة وهم بمنأى عن أماكن الخطر، ووجود من يدفعونهم في الوقوع في المزالق والمهالك والمستنقعات المهلكة.
رابعاً : أن الخوارج في هذا الوقت لا يخرجون جماعات حتى لا يفطن لهم فيمنعون ويعاقبون ويحاسبون وإنما يخرجون فرادى ووحداناً، فسبحان الله كأن ذلك العَلَم يرى ما يفعله هؤلاء اليوم.
خامساً : أنهم يخرجون متسللين من بين الآباء والأمهات وسائر القرابات، ويشهد على ذلك واقع المتأثرين بهذا الفكر والذين أصبحوا ضحية وفريسة لجماعاته وتنظيماته وأحزابه.
وإن من أعظم ما يحارب به الإرهاب والضلال هو بالوحيين الكريمين الكتاب والسنة على فهم سلف هذه الأمة، فإنَّ فيهما العصمة والنجاة من الفتن والشرور والمخاطر ودعاتها، والحل لجميع المشاكل، والقضاء على كل فساد وإفساد، والله سبحانه خلق خلقه، وهو أعلم بما ينفعهم ويصلح لهم ويصلحهم، فشرع شريعته وأوجب العمل بها وألزمهم إياها لأجل صلاحهم وسعادتهم ونجاتهم وفوزهم، ولسلوكهم الصراط المستقيم، والطريق القويم، ولاجتماعهم وعدم تفرقهم وتحزبهم على نحلٍ وجماعات وأحزاب وفرق يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فأهل الإشراك متفرقون، وأهل الإخلاص متفقون، وقد قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} سورة هود (118) - (119) سورة هود}، فأهل الرحمة متفقون مجتمعون، والمشركون فرقوا دينهم وكانوا شيعاً. ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع، يفترق أهله؛ فكان لكل قوم من مشركي العرب طاغوت، يتخذونه نداً من دون الله، فيقربون له ويستشفعون به ويشركون به. وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء، وهؤلاء وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء، بل قد يكون لأهل هذا الطاغوت شريعة ليست للآخرين، كما كان أهل المدينة الذين يهلون لمناة الثالثة الأخرى، ويتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة، حتى أنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} (158 سورة البقرة).
وهكذا تجد من يتخذ شيئاً من نحو الشرك، كالذين يتخذون القبور وآثار الأنبياء والصالحين مساجد، تجد كل قوم يقصدون بالدعاء والاستعانة والتوجه من لا تعظمه الطائفة الأخرى. بخلاف أهل التوحيد، فإنهم يعبدون الله لا يشركون به، في بيوته التي قد أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، مع أنه قد جعلت لهم الأرض مسجداً وطهوراً. وإن حصل بينهم تنازع في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد، لم يوجب ذلك تفرقاً ولا اختلافاً، بل هم يعلمون أن المصيب منهم له أجران، وأن المجتهد المخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له. والله هو معبودهم، إياه يعبدون، وعليه يتوكلون، وله يخشون ويرجون، وبه يستعينون ويستغيثون، وله يدعون ويسألون، فإنَّ خرجوا إلى الصلاة في المساجد، كانوا مبتغين فضلاً منه ورضواناً، كما قال تعالى في نعتهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (29 سورة الفتح).
وقال ابن تيمية أيضاً : فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطناً وظاهراً. وسبب الفرقة : ترك حظٍّ مما أمر العبد به، والبغي بينهم. ونتيجة الجماعة : رحمة الله، ورضوانه، وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه. ونتيجة الفرقة : عذاب الله، ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول - صلى الله عليه وسلَّم - منهم. وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله، بذلك مرحومين، فلا تكون طاعة الله ورحمته بفعلٍ لم يأمر الله به من اعتقاد أو قول أو عمل، فلو كان القول أو العمل الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به لم يكن طاعةً لله، ولا سبباً لرحمته.
ولا شك أن الدين إذا لم يقم على التوحيد الخالص، والسنة النقية من البدع والشوائب، فإنه سيدب الفساد والإفساد، والشر والخراب، والخلاف والاختلاف، والفرقة والضلالة، قال الشافعي - رحمه الله - في وصف العرب قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلَّم - : وقال في جماعتهم، يُذكِّرهم مِن نِعَمِهِ، ويخبرهم ضلالتهم عامة، ومَنَّهُ على مَن أمن منهم: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (103 سورة آل عمران).
فكانوا قبل إنقاذه إياهم بمحمد أهلَ كفر في تفرقهم، واجتماعهم. يجمعهم أعظم الأمور : الكفرُ بالله، وابتداع ما لم يأذن به الله. تعالى عما يقولون علواً كبيراً. لا إله غيره، وسبحانه وبحمده، ربُّ كل شيء وخالقهُ. من حيَّ منهم فكما وَصَفَ حاله حياً : عاملاً قائلاً : بسخط ربه مزداداً من معصيته. ومن مات فكما وَصَفَ قولَه وعملَه : صار إلى عذابه. فلما بلغ الكتاب أجله فَحَقَّ قضاء الله بإظهار دينه الذي اصطفي بعد استعلاء معصيته التي لم يرض : فَتَحَ أبواب سماواته برحمته، كما لم يزل يجري - في سابق علمه عند نزول قضائه في القرون الخالية - : قضاؤه. فإنه تبارك وتعالى يقول: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (213) سورة البقرة).
فكان خِيرتُهُ المصطفي لوحيه، المنتخبُ لرسالته المفضلُ على جميع خلقه، بفتحِ رحمته، وختمِ نبوته، وأعمِّ ما أرسل به مرسلٌ قبله، المرفوعُ ذِكرُهُ مع ذِكرِه في الأولى، والشافعُ المشفَّعُ في الأخرى، أفضل خلقه نفساً، وأجمعُهُم لكل خُلُق رَضِيَهُ في دينٍ ودنيا. وخيرُهم نسباً وداراً محمداً عبدَه ورسولَه. وَعَرَّفَنَا وَخَلقَهُ نِعَمَهُ الخاصةَ، العامةَ النَّفعِ في الدين والدنيا.
فقد كان العرب قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلَّم - في اختلاف وتفرق، وجاهلية جهلاء، وعصبية بغيضة، شذر مذر، الغني يأكل الفقير، والقوي يستعبد الضعيف، جهلٌ وظلمٌ، وتحزبٌ وتناحر، بل حتى النساء معدودات من سقط المتاع، مع ما كانوا عليه من عبادة الأصنام والشرك، والبدع والخرافات التي سطرتها كتب السيرة والتواريخ، ولم يستطع أحد أن يجمع العرب، وأن يؤلف بينهم، بل حتى الدول العظمى كفارس والروم لم يستطيعوا السيطرة على العرب ولمِّ شملهم، وحكمهم، ولكن عندما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلَّم - إلى الشهادتين : شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله : اجتمعوا عليه، ووحدوا الله، وعبدوه وأطاعوه، بعد أن كانوا في جاهلية وشرك وتفرق واختلاف. فالاعتصام بالكتاب والسنة جامعٌ للخلق على الحق، ومانعٌ من التفرق والتحزب الباطل، وواقٍ من السقوط في الفتن، والضلالات، والإرهاب.
إنّ الشريعة الإسلامية جاءت كاملةً شاملةً تامَّةً صالحةً ومصلحةً لكلِّ زمان ومكان وأمَّة، مراعيةً للمصالح والمفاسد، متوافقةً مع فِطَر البشر وطبائعهم، وتقلبات أحوالهم أفراداً وجماعات، ضابطة لتصرفاتهم وأقوالهم وأفعالهم بوسطية واعتدال وموضوعية واتِّزان، ممَّا لو نهجه الإِنسان وسار عليه في أقواله وأفعاله لتحقّق له الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، ولسَلِمَ من الفتن والشرور.
وإن العمل من أجل تحقيق الأمن الفكري والعقدي والوطني بأشكاله وأدواته كافة أصبح مطلباً ضرورياً ومهماً في هذا الزمن الذي ماجت فيه الفتن موج البحار وتكالبت فيه الأعداء على ملة الإسلام، ورفع أرباب السوء ومرضى القلوب عقائرهم للترويج لأفكارهم ودعاواهم الباطلة الزائفة، ولذلك لا بد أن يغرس في نفوس الناشئة كل مقومات ومعالم المعتقد الصحيح والمنهج السليم والفكر الوسطي المعتدل سواء عن طريق الأسرة أو المسجد أو المدرسة أو الجامعة، وأن توضع لذلك الخطط الاستراتيجية ذات الأهداف والرؤية والرسالة والأبعاد المؤثرة، وأن يكون العمل من خلال تحقيق هذا الأمن الذي يجب أن نسميه أمنا عقدياً قبل أن يكون فكرياً، وأن نعلم أن التنظير بشأنه وطرح الآراء التي تعالجه لا يكفي، بل لا بُدَّ أن يواكب ذلك نزول عدد كبير من العلماء وطلبة العلم والباحثين والمتخصصين والموجهين والمربين والمعلمين إلى الساحة، والجلوس مع الشباب والشابات كل على حسب اختصاصه، والتعرف على مشكلاتهم وقضاياهم وما يدور في أفكارهم وأذهانهم من الأمور التي قد تؤدي بهم إلى الانزلاق والانجراف وراء دعاة الإرهاب والضلالة والانزلاق الفكري الوخيم، وكذلك الأفكار المتطرفة والمنحرفة، ومن خلال التجربة والمعايشة والمتابعة والتأمل فإنَّ الشباب قريبون لمن قرب منهم بعيدون عمن ابتعد عنهم، كما أن عناصر الخير والفضل متوافرة وموجودة يجب علينا أن نستغلها ونستخدمها ونفعلها التفعيل المثمر، والتحقيق الإيجابي، وأن يروا منا خيراً، وأننا معهم بالمحبة والرفق واللين وكل الأمور التي تساند تحقيق مبدأ تدريس الأمن الفكري وإثرائه في عقولهم وتحقيقه في نفوسهم، حتى يكون حصناً حصيناً ومانعاً من الوقوع في الشهوات والشبهات.
ويجب علينا أن نتنبه إلى أن بعض أصحاب الأفكار المنحرفة بات يستخدم الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة لإيصال أفكاره الهدامة، وليعلم أن هذه الوسائل هي سلاح ذو حدين، فإنَّ استخدمت في الخير هي خير وإن استخدمت في الشر فسوف يكون طريقها الشر، ومن هنا إذا رأينا أنها تستغل من بعض الناس لبث سمومهم وأفكارهم وشرورهم وطرح بعض الشبهات والأقاويل والجوانب التي تؤثر على نفوس الشباب وأفكارهم فإنَّ الواجب علينا كناصحين ومربين وموجهين أن نستفيد منها في مواجهة ما يُطرح فيها من أولئك، وألا نقف مكتوفي الأيدي أو نتحرك تحركاً بطيئاً لا فائدة منه، بل يجب أن نتحرك تحركاً كبيراً شاملاً، ويتعرف الشباب على مختلف مستوياتهم وتعدد تخصصاتهم على ما نلقيه ونطرحه، مما يزيل الشك والريبة ويقضي على الشُّبه التي ينادى بها ويدعى إليها عبر هذه الوسائل والوسائط والتقنية.
كما يجب تفعيل دور العلماء والدعاة والخطباء لمواجهة الأفكار المنحرفة والتصدي لها، خصوصاً عبر منابر المساجد وخطب الجمعة، فإنَّ العلماء وطلبة العلم والأساتذة والأئمة والخطباء والدعاة عليهم حمل ثقيل وأمانة عظيمة، وواجبهم في كل ما يخدم هذا الدين ويحمي هذا الوطن ويحقق تطلعات ولاة الأمر كبير جداً، لا بُدَّ أن يستشعروه ويعرفوه وأن ينهضوا للقيام به دون أي مجاملة وتردد، لأن المراقب والمتابع لما يحدث من حولنا وما يثار من قضايا يعرف أن الأمر بلغ حداً كبيراً، إذا سكتنا عنه ولم نعالجه من منطلقات شرعية واجتماعية سليمة فإنه سوف يتفاقم ويعظم، ولذلك فإننا قد لا نلم بأطرافه ومخاطره فيما لو سار على ما يسير عليه الآن.
كما أن الأسرة هي المسؤولة الأولى، التي لو قامت بدورها كما يجب لزال كثير من الشرور والمخاطر، ويكمِّل دور الأسرة المسجد ثم المدرسة وغيرها من المؤسسات التعليمية والتربوية والدعوية.
ويجب أن نتنبه أيضاً إلى أنه يوجد دعاة ضلالة وإرهاب باتوا يبثون سمومهم بطرق ملتوية على مواقع التواصل الاجتماعي ويدفعون الشباب إلى مواقع الفتن والحروب وبيئات تعج بالإرهاب، وقد ثبت في الصحيحين البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال : كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت : يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال : «نعم». قلت : يا رسول الله، هل بعد هذا الشر من خير؟ قال : «نعم، وفيه دخن». قلت : يا رسول الله، وما دخنه؟ قال : «قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر». قلت : هل بعد هذا الخير من شر؟ قال : «نعم، دعاة على أبواب جهنم، مَنْ أجابهم إليها قذفوه فيها». قال : قلت : يا رسول الله، صفهم لنا. قال : «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألستنا». قال : قلت : يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال : «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم». قلت : فإنَّ لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال : «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». ونحن اليوم نرى أمثال هؤلاء الدعاة الواقفين على أبواب جهنم، يقذفون فيها كل من أجابهم إليها عبر قنوات ووسائل إعلام متنوعة ومتعددة وخصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي، يروجون لأفكارهم وتأويلاتهم وبث سمومهم بطرق وأساليب يؤثرون من خلالها على كثير من الشباب ويوقعونهم في ما يدعون إليه، بل إنهم يقذفونهم إلى مهالك ومستنقعات وأماكن فاسدة وبيئات تعج بالإرهاب والفتن والحروب والقتال والتكفير والضلال، ولذلك فإنَّ المتأمل في حال هؤلاء الدعاة يرى أنهم يدلسون ويلبسون ويشبهون، وكذلك يدسون السم في العسل، ويقلبون الحقائق، ويدعون الإصلاح والصلاح وهم أبعد ما يكونون عن ذلك كما بعد الثرى عن الثريا، أضف إلى ذلك أنه إذا قيل لهم : لماذا تفعلون هذا الأمر؟ ولماذا تثيرون عواطف الشباب وتوقعونهم في هذه المخاطر؟ قالوا : ليس لنا علاقة في هذا الأمر، ولكن واقعهم وعملهم وكتاباتهم وتحريضاتهم المعلنة والمشهورة والمنتشرة في الملأ تكذبهم.
وإن وقاية الشباب من خطرهم وضلالهم موجود علاجه وحله والطريق السليم للبعد عما يدعون إليه وما يثيرونه وما يسببونه من مشكلات هو في نهاية هذا الحديث الذي يسمى حديث الفتن والجماعة والإمامة، لأن حذيفة قال : يا رسول الله إذا كان الأمر كذلك بماذا تأمرني؟ لم يقل له النبي - صلى الله عليه وسلَّم - في جوابه تتبع الجماعة الفلانية أو الحزب الفلاني أو التنظيم العلاني أو الاتجاه الآخر، إنما قال له أربع كلمات تسطر بماء الذهب، لو أننا تأملنا في معانيها وعملنا بمدلولاتها لنجونا من كل المؤثرات التي يحوكها أعداء الإسلام الظاهرون والمستخفون، قال له - صلى الله عليه وسلَّم - : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، وذلك بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله والتمسك بمنهج السلف الصالح، الداعية للزوم جماعة المسلمين وإمامهم.
وها هو خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله ومتعه بالصحة - والعافية وبما عرف عنه من دراية وخبرة ومعرفة تامة بمجريات الأمور، وبما يتميز به من عقل كبير وعاطفة جياشة وأبوة حانية وحكمة فائقة وبصيرة نافذة وقراءة دقيقة عميقة للتاريخ وبكل ثقة واقتدار وعزم وحزم وقوة وافتخار يتوج هذا العمل الإسلامي التاريخي العظيم الذي لم يسبق له نظير في تاريخ الأمة المعاصر، وذلك برعايته وحضوره وإشرافه المباشر لاختتام ونهاية التدريبات العسكرية في يوم الخميس 1 - 6 - 1437هـ، حيث رعى - حفظه الله - تمرينها الختامي، وذلك بحضور عدد من قادة العالمين العربي والإسلامي، وما ذلك إلا من حرص هذه الدولة المباركة على الاستعدادات والمبادرات التي تحفظ كيان وحدة الأمة العربية والإسلامية، وعدم السماح للتدخلات الأجنبية في الدول الإسلامية والعربية، وتعزز مكانتها ومنزلتها وتحفظ حقوقها بين دول العالم.
وفي الختام أسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والفقه في الدين، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ علينا ديننا ووطننا وأمننا وولاة أمرنا، وأن يوفق ويسدد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، وسمو ولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ويعزهم ويمكنهم ويرفع من شأنهم، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وأن يؤيد هذا التحالف الإسلامي، وأن يجعله خيراً وبركة على الإسلام والمسلمين، وأن ينصر جنودنا المرابطين في الحدود والثغور ورجال أمننا في وسط البلاد على عدوه وعدونا وعدوهم، وأن يربط على جأشهم ويقوي عزائمهم ويثبت قلوبهم ويسدد سهامهم ورميهم، وأن يحفظنا جميعاً من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ به أن نغتال من تحتنا، وأن يجعل ما يقدمون من أجل ديننا وعقيدتنا ووطننا وولاة أمرنا في موازين حسناتهم وأن يرفع به درجاتهم، وأن يرزقهم الإخلاص والاحتساب وأن يجعل عملهم ذلك جهاداً في سبيل الله وأن يعيدهم إلى أوطانهم وأهاليهم سالمين غانمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.