أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
الجزء الأول
الحمد لله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الشريعة الإسلامية جاءت بحفظ الدماء المعصومة، ووجوب صيانتها، وعدم الاعتداء عليها، وتحريم سفكها وإراقتها، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان: 68، 69]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وفي صحيح البخاري (6862) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَزَالَ المؤمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»، وفي صحيح البخاري (6863) عَنْ عَبْدِالله بْنِ عُمَرَ، قَالَ: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ»، وفي صحيح البخاري (2766)، وصحيح مسلم (89) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ»، وفي صحيح البخاري (6871) وصحيح مسلم (88) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: « أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ، -أَوْ قَالَ: وَشَهَادَةُ الزُّورِ-»، وفي صحيح البخاري (6873) وصحيح مسلم (1709) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ نَسْرِقَ، وَلاَ نَزْنِيَ، وَلاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الَّهُ، وَلاَ نَنْتَهِبَ، وَلاَ نَعْصِيَ، بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ»، وفي صحيح البخاري (3166) عَنْ عَبْدِالله بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»، وغيرها من الأدلة فهي كثيرة جدًا.
بل وإن من عظم خطر سفك الدماء أنها أول ما يقضى فيها بين الناس يوم القيامة ففي صحيح البخاري (6864) وصحيح مسلم (1678) عَنْ عَبْدِالله بن مسعود، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ».
وأيضًا فإن من عظم خطر سفك الدماء أن الشريعة تبرأت ممن حمل السلاح على المسلمين؛ ففي صحيح البخاري (6874) وصحيح مسلم (98) عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا».. كل هذا وغيره كثير يدل على حرمة الدماء المعصومة وعدم التعدي عليها أو التعرض لها.
بل أبلغ من ذلك فقد جاءت الشريعة الإسلامية بحفظ الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعرض, والمال، المبني حفظها وجودًا في جلب المصالح وتكثيرها؛ فكل طاعة ترجع إليها، وعدمًا في درء المفاسد وتقليلها؛ فكل مخالفة خارجة عنها.
بل جاءت الشريعة أيضًا بحفظ الحاجيات والتحسينيات، فقد جاءت الشريعة الإسلامية بكل خير وهدى وصلاح، ونهت عن كل شر وفساد وضلال. قال الشاطبي في الموافقات (3 / 338): الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات. أهـ.. والشريعة الإسلامية مبنية على العدل والقسط، بل هو ممّا أمر الله به في جميع الشرائع.
يقول الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل: 90] فالله سبحانه كتب على نفسه -منّة منه وتفضلاً- أنه لا يظلم أحدًا، وحرَّم ذلك على نفسه، وحرَّمه على عباده، فقال في الحديث القدسي كما في صحيح مسلم (2577) من حديث أبي ذر الغفاري: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا».
وأمرَ بالعدل والقسط في جميع المعاملات، وأداء الحقوق المتنوِّعة بين الناس، ونهى عن الظلم في الدِّماء والأموال والأعراض والحقوق كلها، ومن ذلك حقوق الرَّاعي والرَّعية؛ فإنّ التعامل يكون منطلقًا من هذه القيمة الأساس التي يترتب على مراعاتها إقامة الحقوق، وإشاعة الطمأنينة والسعادة، والتلاحم والترابط، والمحبَّة والألفة.
ويجب أن نعلم أنّ العدل في الإسلام معنى شمولي، ينتظم العدل في معاملة الخالق، والعدل في معاملة المخلوق، ويشمل العدل في القول، والعدل في الفعل والعمل، بل حتى في المشاعر والأحاسيس، ولهذا يقول الله سبحانه: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152].
يقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- في كتابه الدين الإسلامي يحل جميع المشاكل ضمن مجموعة مؤلفاته، قسم الثقافة الإسلامية (1-376): «والعدل وضع كلّ شيء في موضعه، والله سبحانه حَكَمٌ عَدْلٌ لا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، لا يضع شيئًا في غير موضعه، بل إنما يضعه في موضع يناسبه، وتقتضيه الحكمة والعدل؛ فلا يفرق بين متماثلين، ولا يسوِّي بين مختلفين، ولذلك لا يمكن صلاح أمور الناس في معاشهم ومعادهم إلّا بالعدل والقسط الذي هو روح الدِّين وقوامه».
ولقد قامت هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية على أساسٍ من الشريعة الإسلامية التي أوجبت العدل والقسط في جميع أعمالها وتعاملاتها وعلاقاتها وأحوالها؛ يشهد بهذا القريب والبعيد، والعدو والصديق، فقد أنشأت واعتمدت محاكم شرعية، وعيّنت قضاة يحكمون بين الناس فيما تنازعوا فيه، وأخذت على عاتقها نصرة المظلوم وإعطاءه حقَّه، وردع الظالم وزجره وإقامة الحدّ عليه، ونشر العدل بين الناس جميعًا حُكّامًا ومحكومين.
يقول الملك عبدالعزيز: في خطابٍ له: «أنتم -رؤساء البلاد وقادة الأمة وكبراؤها- أدرى بما يحسّون به وما يشعرون، فيجب عليكم أن ترفعوا إليَّ كل ما تتظلمون منه، وترشدوني إذا رأيتموني ضللتُ عن طريق الحقّ، وإذا لم تفعلوا ذلك فأنتم المسؤولون، إنني أطلب منكم ومن غيركم أن من رأى منّي شيئًا مخالفًا فليوضحه لي ويُرشدني إلى طريق الحقّ، ولكن كما قال عُمر بن الخطاب لمن أراد أن ينصح: «فليكن بيني وبينك»، فوالله إذا رأيتُ الحقّ أتّبعه؛ لأنني مسترشد ولست مستكشفًا، ومن رأى شيئًا وكتمه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. أمّا المظلمة التي تصلني فإنني لا أتركها، بل أبحثها وأحقِّق فيها، والتي لا تصلني فالذنب فيها على من رأى وكتم، وإذا علمت به فسيكون جزاؤه عندي أعظم من جزاء غيره».
وكان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يكرِّر دائمًا قوله: «لا يدوم الملك بدون عدالة».. ويوصي الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وليَّ عهده الملك سعودًا -رحمه الله- فيقول: «عليك أن تجِدَّ وتجتهد في النظر في شؤون الذين سيولِّيك اللهُ أمرَهم بالنصح سرًّا وعلانية، والعدل في المحبّ والمبغض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطنًا وظاهرًا، وينبغي ألا تأخذك في الله لومةُ لائم».
ويقول: «إنني خادم هذه البلاد العربية لنصرة هذا الدِّين، خادم الرعية، إنّ الملك لله وحدَه، وما نحن إلا الخدم لرعايانا، فإذا لم ننصف ضعيفهم ونأخذ على ضالِّهم، وننصح لهم ونسهر على مصالحهم.. نكون قد خُنَّا الأمانة المودعة إلينا».
ويقول في رسالة بعثها إلى مختلف مناطق المملكة: «وأوجدنا في كلّ محلّ شخصًا سواء أنه من أولادنا أو من خدّامنا، وأمرناه بالعدل بين الناس، وتحكيم الشريعة، وردع الظالم، ونصرة المظلوم. وتفهمون أنه لأجل موجب الفطرة التي فطر اللهُ عليها الناس وجعلها طبيعةً لهم من ظلم النفس أو التعدِّي، سواء أنه من الأمراء أو المأمورين، ولكن كما جاء في الأثر: إنّ الله يزعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».
ونرى الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يحثّ الناس على رفع مظالمهم إلى الأمراء من أبنائه أو غيرهم فيقول: «وكلّ من له مظلمة أو شيءٌ من الأمور التي تلحق في دين أو دُنيا، وأبدى لأولادنا المذكورين فقد وصل إلى خير، وإن شاء الله أنهم يقومون بالواجب، وأيضًا الأمراء والنوَّاب الصغار الذين في المحلات إذا تباعد الإنسان محلّ أولادنا وأراد أن يُبدي لهم الأمر يخلِّصونه إن شاء الله على الوجه المشروع، لكن جُل مقصودنا كشف الحقيقة ورفع المظلمة؛ لأننا إن شاء الله نُنصف المظلوم من الظالم».
ويقول (رحمه الله) أيضًا في رسالة وجَّهها إلى طلبة العلم وغيرهم: «أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، والأخذ على يد السُّفهاء، فإن كانوا ظالمين نصرتموهم بالأخذ على أيديهم، وإن كانوا مظلومين جعلتم الشريعة حكمًا، والولاية تساعدهم على ذلك».
ويقول الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله-: «لقد كانت أبوابُنا مفتوحةً منذ عهد والدي المؤسِّس وأبنائه إلى اليوم، وتعليماتنا واضحة للمسؤولين في الدولة بالاستماع إلى كلِّ شكوى، والتحقّق منها حتى لا يحال بين المواطن وبين حقِّه لضعفه، وللتأكيد على العلاقة الوثيقة بين المسؤولين والمواطنين».
وأوضح الملك سلمان في أول كلمة له، عقب توليه حكم البلاد: «سنظل بحول الله وقوته متمسكين بالنهج القويم، الذي سارت عليه هذه الدولة منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله-، وعلى أيدي أبنائه من بعده -رحمهم الله-، ولن نحيد عنه أبدًا، فدستورنا هو كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم».
وفي كلمة له أخرى -حفظه الله تعالى- قال: «لقد قامت دعائم هذه الدولة، على التمسك بالشريعة الإسلامية التي دعت لحفظ حقوق الإنسان وحمايتها، وقام الحكم في بلادنا على أساس العدل والشورى والمساواة. وإن أنظمة الدولة تتكامل في صيانة الحقوق، وتحقيق العدل، وكفالة حرية التعبير، والتصدي لأسباب التفرقة ودواعيها، وعدم التمييز، فلا فرق بين مواطن وآخر، ولا بين منطقة وأخرى، فأبناء الوطن متساوون في الحقوق والواجبات، ولقد نص النظام الأساسي للحكم على أن تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية».
وأضاف (حفظه الله): «أيها الإخوة والأخوات.. إن القضاء في مقدمة مؤسسات الدولة المعنية بحماية حقوق الإنسان، وقد أكدت أنظمة المملكة على استقلال السلطة القضائية، بما يكفل تحقيق العدالة، وضمان حق التقاضي لجميع المواطنين والمقيمين. وحرصاً من الدولة على حماية حقوق الإنسان وصيانتها في إطار أحكام الشريعة الإسلامية، فقد أنشأت هيئة حقوق الإنسان، بهدف تعزيز حماية الحقوق، وأكدنا على أهمية تعاون جميع الأجهزة الحكومية معها لتحقيق أهدافها بكفاءة وفعالية.. كما رحبت الدولة بقيام الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، وغيرها من الجمعيات الأهلية المتخصصة».
وذِكر الشواهد في هذا يطول جدًّا، وما تقدّم يدلّ دلالةً تامَّةً على حرص هذه الحكومة المبارَكة من أول قيامها إلى يومنا هذا على تحقيق العدل ونشره وإنصاف المظلوم من الظالم، وردع أهل الفساد والشر والزيغ والعناد بسلطان الشرع، وسيف الحكم الذي لا يخرج عن مبادئ الدين الحقة.
ولذلك فإن المملكة العربية السعودية بثوابتها وأسسها وقواعدها التي قامت عليها والمبادئ والأصول التي تنطلق منها تعمل على نشر كل خير وفضل وتعاون على البر والتقوى، وما يجمع القلوب ويؤلفها، ويلم الشمل ويرأب الصدع، ويحذر ويحارب كل فساد وإفساد وإرهاب وتطرف وغلو وجفاء وإفراط وتفريط، أيًا كان نوعه ومهما كان جنسه أو المنادي به من الداخل أو الخارج.
وإن مما يحمد لولاة أمر هذه البلاد المباركة تنفيذ حدود الله، وأحكام الشريعة الإسلامية، أخذًا بما أمرهم الله به من ذلك، فالحدود أسوار منيعة، وعقوبات زاجرة من التعدي على الدين والأنفس والأعراض والعقول والأموال، وغيرها مما يحتاجه الناس.
وقد أمر وشدد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحدود، حتى يحرص ولاة أمور المسلمين على إقامتها وتنفيذها، وتطبيقها على الرعية، وعدم التهاون أو الاستخفاف بها فضلاً عن تركها أو استبدالها بغيرها من الأحكام البشرية الأرضية الوضعية، فقد أخرج البخاري (4304)، ومسلم (1688) عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟»، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاخْتَطَبَ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقُطِعَتْ يَدُهَا. وفي صحيح ابن حبان (4397) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِقَامَةُ حَدٍّ بِأَرْضٍ، خَيْرٌ لأهلها من مطر أربعين صباحًا»، ففي هذا الحديث أن إقامة الحد خير من المطر أربعين يومًا، ومن المعلوم أن المطر والغيث لمدة أربعين يومًا خيره ونفعه بإذن الله عام يشمل البلاد والعباد، لما فيه من البركة والنفع، فإقامة حد واحد خير من هذا الإمطار لما فيه من حفظ الأنفس والأعراض والأموال وغيرها من الضرورات والحاجيات والتحسينيات، فبركة نفع إقامة الحدود تعم الأرض، وتصلح الناس، وتجلب الخير والأموالأمان.
وإن المملكة العربية السعودية، بلد التوحيد والسنة، كانت وما زالت -ولله الحمد والفضل والمنة- قائمة على الأصلين العظيمين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمنذ نشأت الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود عندما تعاهد واتفق مع شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله تعالى-، ثم الدولة الثانية على يد الإمام تركي بن عبدالله -رحمه الله-، ثم الدولة الثالثة على يد الإمام الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود -رحمه الله-، وهي تنهل من معنيهما الصافي وتشرب وتغرف من منبعهما الزلال، وتطبق شرع الله وحدوده وأحكامه، وتسير على منهج أهل السنة والجماعة، ذلك المنهج الواضح الذي لا لبس فيه ولا إعوجاج، لأنه منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته الكرام، ومن تبعهم من التابعين وأئمة الإسلام.
وما ذاك إلا لأنها مملكة شرعية، ودولة سُنية سلفية سَنية، قامت منذ نشأتها على تلك الأسس والضوابط الشرعية، التي طبقتها وما زالت بحمد الله تطبقها وتقوم بها على منهج رصين، ودستور متين، مستمد من الوحيين الكريمين وما كان عليه سلف هذه الأمة، ذلك المنهج المعصوم، والطريق المستقيم، الذي من تمسك به هُدي وكُفي، كيف لا؟! وهو منهج رباني، شرعه الله لعباده، وأمرهم بالسير عليه.
وقد قامت هذه الدولة المباركة على تحكيم الشريعة الإسلامية، وتطبيقها، والأخذ بها، والعدل بين الناس، فالمساس بها، والنيل منها، والتعرض لها بسوء منكرٌ وخطيئة، بل قال سماحة الشيخ الإمام عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله- كما هو مسجل في شريط بعنوان: «أهداف الحملات الإعلامية ضد حكام وعلماء بلاد الحرمين»: (العداء لهذه الدولة عداء للحق، عداء للتوحيد، أي دولة تقوم بالتوحيد الآن.. من يدعو إلى التوحيد الآن ويحكم شريعة الله ويهدم القبور التي تعبد من دون الله؟.. مَنْ ؟.. أين هم؟.. أين الدولة التي تقوم بهذه الشريعة؟.. غير هذه الدولة).
وقال أيضاً في مجموع فتاواه (9-98): (هذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق، ونصر بها الدين، وجمع بها الكلمة، وقضى بها على أسباب الفساد وأمَّن الله بها البلاد، وحصل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله، وليست معصومة، وليست كاملة، كل فيه نقص، فالواجب التعاون معها على إكمال النقص، وعلى إزالة النقص، وعلى سد الخلل بالتناصح والتواصي بالحق والمكاتبة الصالحة، والزيارة الصالحة، لا بنشر الشر والكذب، ولا بنقل ما يقال من الباطل).
وقال أيضاً في مجموع فتاواه (7-184): (والعقيدة السلفية هي العقيدة التي دعا إليها الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- وهي عقيدة السلف، وهي عقيدة الدولة السعودية، وحقيقتها التمسك بالكتاب والسنّة وما كان عليه سلف الأمة في العقيدة والأحكام حسبما دل عليه كتاب الله -عز وجل- وسنة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وما درج عليه الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان).
وقال أيضاً في مجموع فتاواه (1-379): (ومن أقوى أسباب نجاح هذه الدعوة أن هيأ الله لها حكامًا آمنوا بها ونصروها وآزروا دعاتها، ذلكم هم الحكام من آل سعود بدءاً من الإمام المجاهد محمد بن سعود رحمه الله مؤسس الدولة السعودية ثم أبنائه وأحفاده من بعده).
وقال أيضاً في مجموع فتاواه (1-380): (ووجود دولة تؤمن بهذه الدعوة وتطبق أحكامها تطبيقًا صافيًا نقيًا في جميع أحوال الناس في العقائد والأحكام والعادات والحدود والاقتصاد وغير ذلك مما جعل بعض المؤرخين لهذه الدعوة يقول: إن التاريخ الإسلامي بعد عهد الرسالة والراشدين لم يشهد التزاماً تاماً بأحكام الإسلام كما شهدته الجزيرة العربية في ظل الدولة السعودية التي أيدت هذه الدعوة ودافعت عنها، ولا تزال هذه البلاد والحمد لله تنعم بثمرات هذه الدعوة أمنًا واستقرارًا ورغدًا في العيش وبعدًا عن البدع والخرافات التي أضرت بكثير من البلاد الإسلامية حيث انتشرت فيها، والمملكة العربية السعودية حكاماً وعلماء يهمهم أمر المسلمين في العالم كله، ويحرصون على نشر الإسلام في ربوع الدنيا لتنعم بما تنعم به هذه البلاد).أهـ.
وإن المتأمل والمدقق في الأصول والأسس والمبادئ التي قامت عليها بلادنا المملكة العربية السعودية منذ أن أسسها ووحدها الإمام الملك الصالح العادل عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله وغفر له على التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل، والانطلاق من نصوص الكتاب والسنّة، وما كان عليه سلف هذه الأمة، يرى أنها دولة أصيلة معاصرة، تنطلق في كل معاملاتها وتعاملاتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية مما جاء فيهما من الحق والعدل والرحمة والبر والفضل، وما فهمه علماء الأمة منهما، يدل على ذلك ويشهد عليه حقائق وأرقام ووقائع وحوادث لا يمكن أن نأتي عليها في مثل هذا المقال، وإنما هي إشادات وإشارات وتنبيهات تفيد وتكفي عن التطويلات.
وإن من الضروريات للعباد والبلاد، لتصلح الأحوال، وتستقيم الأمور، ويأمن الناس على عقولهم، وحياتهم، وأعراضهم، وسائر أمورهم يكمن في تطبيق شريعة عليهم وبينهم، فإن الله خلق الخلق، وهو سبحانه أعلم بما يصلح أحوالهم فأنزل الله شريعته على رسوله -صلى الله عليه وسلم- لتكون حكمًا على عباده، ومنهاجًا لهم، فلا تصلح حياتهم بدونها، ولا يوجد حل لمشكلاتهم وخصوماتهم أنفع وأصلح من هذه الشريعة الغراء.
ولقد سار الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في حكمه لهذه البلاد المباركة على كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتطبيق شرع الله بين العباد، وفي جميع شئون الدولة، وكذا من جاء بعده من أبنائه الملوك الميامين، الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد، والملك فهد، والملك عبدالله -رحمهم الله جميعًا-، إلى وقت خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -وفقه الله وسدده ونصر به الحق وأعلاه-، وهم قائمون بذلك لا يحيدون عنه ولا يتزعزعون.
...... يتبع