أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
الجزء الثاني والأخير
يقول الملك عبدالعزيز - رحمه الله - مبيناً سير الحكومة على وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا عز لها إلا بذلك: «لا عز لنا ولا نصر إلا بالتمسك بشريعة الإسلام».
ويقول: «إني مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها».
ويقول: «لن يكون بعد اليوم سلطان إلا للشرع الذي يجب أن تطأطئ جميع الرؤوس له».
ويقول: «لسنا ملوكًا مستبدين، ولا حكامًا شخصيين، بل نحن في بلادنا مقيدون بأحكام الشرع، ورأي أهل الحل والعقد».
ويقول - رحمه الله -: «أما نحن فلا عزَّ لنا إلا بالإسلام، ولا سلاح لنا إلا التمسك به، وإذا حافظنا عليه حافظنا على عزِّنا وسلاحنا، وإذا أضعناه ضيَّعنا أنفسنا وبؤنا بغضب من الله».
وكان يدعو كثيراً: «اللهم أعزني بالإسلام».
ويقول: «ونحن عبادٌ مستعبدون لله، ليس لنا طريقة، وليس لنا مذهب غير الدين الحنيف، وهذا كتاب الله بين أيدينا، وهذا شرع الله نتبعه، أما خوض الرجال؛ فإن كان من جهة الدين واعتراضهم عليه فالحق ما جاء في كتاب الله، والذي يكتم الحق ملعون، وكل أمر خالف الدين متروك، أما السلف الصالح، من الخلفاء الراشدين أو الأئمة الأربعة المهتدين: فإننا نتبعهم، ومن كان عنده غير ذلك يُبَيِّنه لنا حتى تقوم الحجة، وكل إنسان عنده نصيحة لنا من الكتاب والسنة فنحن مستعدون في جميع الأوقات».
فيا لها من أُسس وقواعد ومبادئ سامية يقل أن يجود الرجال بأمثالها، وأن يحقق العظماء ما حوته من معان ومبان عزيزة وشريفة؛ وما ذاك إلا لكونها نبعت وأشرقت من نور الوحي، واستُمِدَّت من مصادره الأصلية وينابيعه الصافية الشافية، الشاملة الكاملة، ذات الأصالة والاستمرارية، والصلاحية لكل زمان ومكان وأمة.
ويقول - رحمه الله -: إن خطتي التي سرت، ولا أزال أسير عليها، هي إقامة الشريعة السمحة.
ويقول: ليس عندي في إقامة حدود الله هوادة، ولا أقبل فيها شفاعة.
ويقول الملك فهد - رحمه الله -: «الإسلام أكبر نعمة أنعمها الله على الأمة واستحضار هذه الحقيقة في كل عمل مخلص هو قمة الوعي بها، ومن ثم الدفاع عن مقوماتها، ولقد أدرك والدنا الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - رحمه الله - عظمة هذه النعمة الإلهية وعمل على تمثلها في نفسه، فجعل الإسلام نبراسًا له في كل أعماله، وحقق أهدافه السامية المتمثلة في التمسك بالعقيدة، وتطبيق الشريعة الإسلامية، والدفاع عنها ونشر الأمن، وتأسيس مجتمع موحد تسوده الإخوة والرخاء والاستقرار».
ويقول الملك فهد أيضاً - رحمه الله -: «إن الحكم في الدولة السعودية منذ نشأتها إسلامي يقوم بنيانه على أساس من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم دستور حياة ومنهج حكم لا يضعف ولا ينقطع، وظلت حكمة القيادة ترعى هذا الأساس الحكيم وتحرسه بيقظتها الواعية الأمنية».
ويقول الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - مبيناً المقصد الأول والهدف الأسمى الذي جند له الملك عبدالعزيز - رحمه الله - نفسه وولده وماله: «هدف الملك عبدالعزيز هو إقامة دولة تحكّم كتاب الله وسنة رسوله».
ويقول العالم الجليل، الشيخ عبدالله بن عبداللطيف: «فلما منَّ الله سبحانه على المسلمين في آخر هذه الأزمان التي اشتدت فيه غربة الدين باجتماع المسلمين، وردَّ لهم الكرَّة ولمَّ شعثهم بإمامٍ يدعوهم إلى دين الله وإلى طاعته بماله ونفسه ولسانه، وهدى الله بسبب ذلك من هدى من البادية... فالواجب علينا وعليكم معرفة هذه النعمة... فاشكروا نعمة الله عليكم بما منَّ به من إمامة إسلام، تدعوكم إليه ظاهرًا وباطنًا مما سمعتم وصدَّقه الفعلُ، من بذْل المال والسلاح والقوة وإيمانه للمجاهدين؛ لأجل دينه لا لقصد سوى ذلك، يعرفه ذلك من عرفه، ولا يجحده إلا منافقٌ مفارق بقلبه ونيته ما اعتقده المسلمون وقاموا به».
ومن هنا يجب على الجميع من حكام ومحكومين، رجال ونساء، كبار وصغار، مواطنين ومقيمين المحافظة على عقيدة هذا البلد، ودينه، وحكامه، وعلمائه، وأهله، وأمنه وأمانه، واقتصاده، والقيام بحقوقه، وعدم التهاون في ذلك، أو التفريط والمجازفة، بل يجب على الجميع أن يكونوا يدًا واحدة، وعلينا جميعاً أن نستشعر ذلك وأن يكون على بالنا ونصب أعيننا دائماً وأبدًا الاجتماع والتماسك، وأن نكون صفًا متراصًا متآلفين متعاونين متفقين مؤتلفين في كل ما يحفظ حياض التوحيد ويحمي بيضة ديننا وبلادنا وأمننا وأماننا واستقرارنا ورغد العيش الذي نتفيأ ظلاله في مملكتنا الحبيبة خلف قيادتنا الشرعية الراشدة وعلى رأسها خادم الحرمين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، وسمو ولي ولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز - حفظهم الله ووفقهم لكل خير.
ولنعلم أن هذا الاجتماع والتآلف والطمأنينة في هذا البلد المبارك لم يحصل مصادفة، بل جاء بعد تعب شديد، وجهاد صادق مخلص مديد، قام به الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه وجعل الفردوس الأعلى مأواه، ورجاله المخلصون من أبناء هذه البلاد الغالية، وقد بيَّن الملك عبدالعزيز - رحمه الله - مدى حبه وتفانيه من أجل أمن وأمان واستقرار هذه البلاد المباركة، فقد توجه إلى الشريف خالد بن لؤي وإلى من في المجلس بقوله: اسمع يا خالد، اسمعوا يا إخوان: أنا عندي أمران لا أتهاون في شيء منهما، ولا أتوانى في القضاء على كل من يحاول النيل منهما ولو بشعرة.
الأول: كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، إني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداء لهذه الكلمة، لا أضن به.
والثاني: هذا الملك الذي جمع به شمل العرب بعد التفرقة، وأعزهم بعد الذلة، وكثرهم بعد القلة، فإني كذلك لا أدخر قطرة من دمي في سبيل الذود عن حوضه.
ويقول مخاطباً أبناء وطنه بكل أمانة وإخلاص ومحبة وشفقة مقرونة بالدعائم الشرعية والصراحة في الحق، والصرامة في كبير الأمور وصغيرها، والرحمة المعهودة، والحكمة الفائقة: «تعلمون أن أفضل الأعمال كلمة حق تقال، وأن أفضل الأعمال معرفة الحق واستعماله، إنَّ رأينا واعتقادنا وأملنا في السير إلى الأمام، وفق ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، يجب أن يعمل الموظفون بما أمر الله ورسوله به دون أن يخشوا في الحق لومة لائم ولا ارتياباً.
هناك محاكم شرعية، ولجان الأمر بالمعروف أُسِّسَت لإظهار الحق، وأنتم أيها القوم أمناء لهذا الدين ولهذا البلد الأمين، وأنتم مسؤولون عنه، وأنتم خدَّامه، فالأوامر التي تطبق على هذا البلد يجب أن تطبق عليكم، ولا يجوز في أي حال تطبيق الأوامر على فريق دون آخر، نحن نطلب منكم:
أولاً: إقامة الصلاة في أوقاتها، ولا يجوز التخلف عنها قط.
ثانياً: اجتناب جميع المحرمات، والابتعاد عن مجالسة الأشخاص الأشرار، ومخالطتهم، وعدم الجلوس في مجالس السوء والريب.
وصفوة القول: أنه يجب عليكم اتباع أوامر الحكومة، والعمل بها شرط ألا تكون مخالفة للشرع، وما عهدنا بها أنها أصدرت أمراً يخالف الشرع قط».
ولم يقتصر على ذلك بل كان دائم التوجيه لأبنائه وأفراد شعبه إلى إخلاص النية لله، والعمل على إعلاء كلمته، ونصر دينه، والحرص على أداء الطاعات وتقوية الصلة بالله في السراء والضراء، ويتجلى هذا الأمر بالبرقية التي أبرق بها إلى ولي عهده الأمير سعود في الثامن عشر من المحرم سنة 1352هـ والتي قال فيها: «ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور:
نية صالحة، وعزم على أن تكون حياتك، وأن يكون دينك إعلاء كلمة التوحيد، ونصر دين الله، وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتاً خاصة لعبادة الله، والتضرع بين يديه في أوقات فراغك، تعبد الله في الرخاء تجده في الشدة، وعليك بالحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة، ولا يصلح مع الله عز وجل إلا الصدق، وإلا العمل الخفي الذي بين المرء وربه».
فيا لها من وصاية أمرت بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ جمعت فأوعت، وصدقت وخلصت؛ فأنتجت وأثمرت، وحدة فريدة، وعزة عزيزة، واجتماعًا وائتلافًا واتفاقًا أساسه عقيدة التوحيد، وقاعدته منهج سلف هذه الأمة، سداه المحبة والاحترام والتقدير، ولحمته الولاء والوفاء للدين والوطن، والتعاون على البر والتقوى.
فالملك عبدالعزيز - رحمه الله - لم يقتصر بأمره على صغار موظفي الدولة بالسير في أعمالهم ومعاملاتهم وفق أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم مخالفة ذلك، بل ولا حتى كبارهم أيضاً من غير الأسرة الحاكمة، بل شمل أبناءه من الأسرة الحاكمة، بل حتى ولي عهده، فقد شمل جميع الموظفين من الكبار والصغار، وهذا يدل على تعظيمه - رحمه الله - لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والحرص على ذلك، ومعرفته أنه لا سعادة ولا فلاح إلا بإتباع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم مخالفة ذلك، وأن الأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة بين الناس لا يمكن أن يتحقق دون ذلك.
ورغم ذلك كله عانت هذه الدولة المباركة الويلات من الإرهاب والإرهابيين وأهل الفساد والشر ودعاة الفتنة الواقفين على أبواب جهنم يقذفون فيها كل من أجابهم إليها، والحوادث والوقائع والأرقام والحقائق تدل دلالة واضحة على ذلك ولا تحتاج إلى ذكر وبيان، ومن هنا جاء هذا الحكم الشرعي العدلي القضائي النزيه الموضوعي الذي احتكم فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عبر قنوات قضائية لا يمكن أن يكون للاجتهاد الفردي فيها مجال، وذلك بتنفيذ حكم القصاص والحرابة والتعزير على سبعة وأربعين من المجرمين الإرهابيين، ومن الفئة الضالة الباغية المنحرفة التي اتخذت أساليب مدمرة وارتحلت الفكر المتطرف الغالي المفضي للتكفير والتفجير والتدمير مما راح ضحيته كثير من أبناء المسلمين وغيرهم من معصومي الدم والمال، تحقيقًا لأهداف ومطامع أعداء الدين في الداخل والخارج.
ولذلك فإن تطبيق هذه الحدود والأحكام وتنفيذها بهذه الصورة المتميزة الفذة أمان لنا - بإذن الله - في استمرار أمننا وأماننا واستقرارنا وطمأنينتنا، وزيادة لنا في الخير والبركة؛ لأن ذلك تنفيذ واستجابة لأمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في إقامة الحدود والأحكام الشرعية، فإقامتها تعظيم لله، ولأمره، ولدينه، ولشرعه، ولكتابه، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي الحياة والسعادة والفلاح والنجاح، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إليه بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 178، 179]، فسمَّى الله إقامة القصاص: حياة، روى الطبري في تفسيره (3/ 121) بإسناده إلى قتادة في تفسير هذه الآية قوله: (جَعَلَ اللَّهُ هَذَا الْقِصَاصَ حَيَاةً وَنَكَالًا وَعِظَةً لِأَهْلِ السَّفَهِ وَالْجَهْلِ مِنَ النَّاسِ. وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ قَدْ هَمَّ بِدَاهِيَةٍ لَوْلَا مَخَافَةُ الْقِصَاصِ لَوَقَعَ بِهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَجَزَ بِالْقِصَاصِ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ. وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرٍ قَطُّ إِلَّا وَهُوَ أَمْرُ صَلَاحٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا نَهَى اللَّهُ عَنْ أَمْرٍ قَطُّ إِلَّا وَهُوَ أَمْرُ فَسَادٍ فِي الدُّنْيَا وَالدَّيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالَّذِي يُصْلِحُ خَلْقَهُ).
وقال الطبري في تفسيرها (3/ 120): (وَلَكُمْ يَا أُولِي الْعُقُولُ فِيمَا فَرَضْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْجَبْتُ لِبَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ، وَالْجِرَاحِ، وَالشِّجَاجِ مَا مُنِعَ بِهِ بَعْضُكُمْ مِنْ قَتْلِ بَعْضٍ وَقَدَعَ بَعْضَكُمْ عَنْ بَعْضٍ فَحَيِيتُمْ بِذَلِكَ فَكَانَ لَكُمْ فِي حُكْمِي بَيْنَكُمْ بِذَلِكَ حَيَاةٌ).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (78/ 14): (فَإِنَّهُمْ إذا تَعَادُّوا الْقَتْلَى وَتَقَاصُّوا وَتَعَادَلُوا لَمْ يَبْقَ وَاحِدَةٌ تَطْلُبُ الْأخرى بِشَيْءِ فَحَيِيَ هَؤُلَاءِ وَحَيِيَ هَؤُلَاءِ بِخِلَافِ مَا إذا لَمْ يَتَقَاصُّوا فَإِنَّهُمْ يَتَقَاتَلُونَ وَتَقُومُ بَيْنَهُمْ الْفِتَنُ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا خَلَائِقُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فِتَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإسلام، إنما تَقَعُ الْفِتَنُ لِعَدَمِ الْمُعَادَلَةِ وَالتَّنَاصُفِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِلَّا فَمَعَ التَّعَادُلِ وَالتَّنَاصُفِ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أُولُو الْأَلْبَابِ لَا تَبْقَى فِتْنَةٌ).
ويقول القرطبي في تفسيره (2/ 256): قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ، هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ الْوَجِيزِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَعْنَاهُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أبي مَالِكٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقِصَاصَ إذا أُقِيمَ وَتَحَقَّقَ الْحُكْمُ فِيهِ ازْدُجِرَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَ آخر، مَخَافَةَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَحَيِيَا بِذَلِكَ مَعًا. وَكَانَتِ الْعَرَبُ إذا قُتِلَ الرَّجُلُ الْآخَرُ حَمِيَ قَبِيلَاهُمَا وَتَقَاتَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ داعباً إلى قَتْلِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، فَلَمَّا شَرَعَ اللَّهُ الْقِصَاصَ قَنَعَ الْكُلُّ بِهِ وَتَرَكُوا الِاقْتِتَالَ، فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ.
ويقول ابن كثير في تفسيره (1/ 492): وَقَوْلُهُ: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَقُولُ تَعَالَى: وَفِي شَرْع الْقِصَاصِ لَكُمْ -وَهُوَ قَتْلُ الْقَاتِلِ - حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ لَكُمْ، وَهِيَ بَقَاءُ المُهَج وصَوْنها؛ لِأَنَّهُ إذا عَلِمَ القاتلُ أَنَّهُ يُقْتَلُ انْكَفَّ عَنْ صَنِيعِهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ حَيَاةُ النُّفُوسِ. وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ: القتلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. فَجَاءَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي القرآن أَفْصَحُ، وَأَبْلَغُ، وَأَوْجَزُ.
ويقول الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره (ص 85): ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ أي: تنحقن بذلك الدماء، وتنقمع به الأشقياء، لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل، لا يكاد يصدر منه القتل، وإذا رئي القاتل مقتولاً انذعر بذلك غيره وانزجر، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل، لم يحصل انكفاف الشر، الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية، فيها من النكاية والانزجار، ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، ونكَّر «الحياة» لإفادة التعظيم والتكثير. ولما كان هذا الحكم، لا يعرف حقيقته إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة، خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم في تدبر ما في أحكامه من الحكم، والمصالح الدالة على كماله، وكمال حكمته وحمده، وعدله ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب، وناداهم رب الأرباب، وكفى بذلك فضلاً وشرفًا لقوم يعقلون. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة، أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله، ويعظم معاصيه فيتركها، فيستحق بذلك أن يكون من المتقين.أهـ
وقال تعالى مبيناً وجوب استيفاء الحقوق في النفس والأطراف وغيرها: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45].
وينبغي أن نعلم أن تنفيذ هذه الحدود والأحكام الشرعية في هذا الوقت الراهن سيكون له ردود أفعال من أعداء الدين والدولة، من دول ومنظمات تُسمي نفسها بالدولية، وهيئات تزعم أنها تنصر وتقوم بالحقوق الإنسانية، وسيستخدمون مناهج وطرقًا فاسدة وملتوية وماكرة للتغرير والتأثير على ضعفاء العقول والنفوس، وسفهاء الأحلام، وسيظهر أهل الأهواء والشبهات والشهوات والمرجفين والفتانين من أجل شق عصا الطاعة، وخلق الفتن المضلة، والأراجيف المهلكة، والفوضى العارمة، وكل هؤلاء مخالفين لأمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في إقامة الحدود وتنفيذها، ردعاً للظالمين والمفسدين والمتطرفين والخوارج الغالين، ففي صحيح مسلم (1852) عن عَرْفَجَةَ بن شريح الأشجعي، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أو يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ»، وما يريد هؤلاء المجرمون الإرهابيون إلا شق عصا الطاعة، وتفريق الجماعة، وتشتت الأمة فكيف يُرحمون، أو يُدافع عنهم، بل عقوبتهم بالقتل والإعدام عقوبة شرعية واجبة، ولا يمكن أن تساوى عقوبة جريمتهم بعقوبات أقل منها، يقول ابن القيم - رحمه الله - في إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 79): وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدَائِهِ الْعُقُولِ أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الْعُقُوبَاتِ مَعَ تَفَاوُتِ الْجَرَائِمِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ، بَلْ مُنَافٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّهُ إنْ سَاوَى بَيْنَهَا فِي أَدْنَى الْعُقُوبَاتِ لَمْ تَحْصُلْ مَصْلَحَةُ الزَّجْرِ، وَإِنْ سَاوَى بَيْنَهَا فِي أعظمِهَا كَانَ خِلَافَ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ؛ إذ لا يَلِيقُ أَنْ يَقْتُلَ بِالنَّظْرَةِ وَالْقُبْلَةِ وَيَقْطَعَ بِسَرِقَةِ الْحَبَّةِ وَالدِّينَارِ. وَكَذَلِكَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعُقُوبَاتِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْجَرَائِمِ قَبِيحٌ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ، وَكِلَاهُمَا تَأْبَاهُ حِكْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَعَدْلُهُ وَإِحْسَانُهُ إلى خَلْقِهِ، فَأَوْقَعَ الْعُقُوبَةَ تَارَةً بِإِتْلَافِ النَّفْسِ إذا انتهتْ الْجِنَايَةُ فِي عِظَمِهَا إلى غَايَةِ الْقُبْحِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ أو الدِّينِ أو الْجِنَايَةِ الَّتِي ضَرَرُهَا عَامٌّ؛ فَالْمَفْسَدَةُ الَّتِي فِي هَذِهِ الْعقُوبَةِ خَاصَّةً، وَالْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ بِهَا أَضْعَافَ أَضْعَافِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 179]، فَلَوْلَا الْقِصَاصُ لَفَسَدَ الْعَالَمُ، وَأَهْلَكَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ابتداءً وَاسْتِيفَاءً، فَكَانَ فِي الْقِصَاصِ دَفْع لِمَفْسَدَةِ التَّجَرُّؤِ عَلَى الدِّمَاءِ بِالْجِنَايَةِ وَبِالِاسْتِيفَاءِ. وَقَدْ قَالَتْ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا: «الْقَتْلُ أَنَفَى لِلْقَتْلِ». وَبِسَفْكِ الدِّمَاءِ تُحْقَنُ الدِّمَاءُ؛ فَلَمْ تُغْسَلْ النَّجَاسَةُ بِالنَّجَاسَةِ، بَلْ الْجِنَايَةُ نَجَاسَةٌ وَالْقِصَاصُ طُهْرَةٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَوْتِ الْقَاتِلِ وَمَنْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ فَمَوْتُهُ بِالسَّيْفِ أَنْفَعُ لَهُ فِي عَاجِلَتِهِ وَآجِلَتِهِ، وَالْمَوْتُ بِهِ أَسْرَعُ الْمَوْتَاتِ وَأَوْحَاهَا وَأَقَلُّهَا أَلَمًا، فَمَوْتُهُ بِهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ وَلِأولياء الْقَتِيلِ وَلِعُمُومِ النَّاسِ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى إتْلَافِ الْحَيَوَانِ بِذَبْحِهِ لِمَصْلَحَةِ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَبْحِهِ إضْرَارٌ بِالْحَيَوَانِ؛ فَالْمَصَالِحُ الْمَرْتَبَةُ عَلَى ذَبْحِهِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَفْسَدَةِ إتْلَافِهِ.أهـ
وهنا نقول إن الواجب علينا أفرادًا وجماعات وخصوصًا أبناء هذا الوطن ذكورًا وإناثًا صغارًا وكبارًا مواطنين ومقيمين أن نعلم علم اليقين أن ما تمَّ هو مصلحة عامة محضة متحققة، ودرء لمفاسد خطيرة، وهو عين شرع الله عز وجل الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يحقق لنا الأمن والأمان والطمأنينة والاستقرار ورغد العيش ويدفع عنا الشرور والفجور وأهلها، ولذلك لا بد أن نقف صفًا واحداً متراصًا مع ولاة أمرنا ونعلم علم اليقين أن ما تمَّ هو من الأمور التي لا بد أن ندرك أهميتها ومنزلتها وأثرها على كل ما نعيشه وما نعايشه، وأن لا نستمع لكل ناعق من الداخل أو الخارج لأن المزايدين والمزيفين والمنتحلين والمبطلين، وشياطين الإنس والجن كثيرون يدسون السم في العسل.
ويجب أن نرد على تلك المنظمات والهيئات التي تحوك وتلوك في مقابلة ما صدر في حق هؤلاء الإرهابيين المجرمين فنقول: إن كل بلد لها الحق من خلال أنظمتها وقوانينها وأحكامها أن تحافظ على مقدراتها ومكتسباتها ومقدساتها وكل شؤونها، ولا يمكن أن ترضى أي بلد بأن ينال من أمنها وأمانها أو يقتل أهلها صغارًا وكبارًا ذكورًا وإناثًا مدنيين وعسكريين، ويُعتدى على مواطنيها والمقيمين فيها، ويُهلك كل ما فيها من حرث ونسل وممتلكات وهي ساكتة ساكنة.
وإن المملكة العربية السعودية لا يمكن أن تسمح لأحد بحال من الأحوال أن يطعن في عقيدتها وأحكامها وتنفيذها لحدود الله وأحكامه، من أي جهة كانت سواء حكومية أو أهلية، منظمات أو هيئات عالمية ودولية أو إسلامية أو عربية، فهي تنطلق في جميع أحكامها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما فهمه علماء الإسلام منهما، وذلك في مختلف الأحوال والأزمان والأحكام، كل ذلك وفق منهج رباني، وعقيدة راسخة، وطريق مستقيم تحقق فيه مبادئ الدين الحنيف وتوجيهاته.
جاء تنفيذ هذه الحدود الشرعية، والأحكام الإسلامية ليعلم العالم أجمع أن المملكة العربية السعودية تطبق شرع الله وأوامره بلا هوادة ولا تراخٍ ولا ضعفٍ، وليدلل دلالة واضحة على أن هذه البلاد تقف عزيزة شامخة قوية مهيبة الجانب لا ترضى بالذل والخمول والهوان والاعتداء ولا بأي أمر يُنال من خلاله من مبادئ ديننا وعقيدتنا وقضائنا وأخوتنا الإيمانية ووحدتنا الوطنية والإسلامية.
وإنه لمن الغبطة والسرور تنفيذ هذه الحدود الشرعية، وليعلم أنها نصر للتوحيد والسنة، وحماية للحرمين الشريفين، ودفاع عن المسلمين، ونصرة للمستضعفين، وحقن لدماء المعصومين من المسلمين وغير المسلمين، وردع للمجرمين المعتدين، والغلاة المتطرفين، والخوارج المبتدعين، ووقف للضالين المضلين، وقطع للطريق على المفسدين والمخربين والمفجرين، ونشر للعدل والسلام، وأحياء للحق والوئام، وحماية للذمار، وحفظ للديار.
وليعلم أن من نصر أو دافع أو استهان بأمر هؤلاء المجرمين أنه داعية من دعاة الإجرام والإرهاب والتفجير والتخريب أيًا كان عمله أو دينه ومذهبه، وهل يرضى أحدهم أن يكون والده أو ابنه أو أخوه أو قريبه ضحية من ضحايا هؤلاء المعتدين المجرمين، وهل يرضى من هو خارج هذه البلاد بوجود هؤلاء المجرمين وأمثالهم في بلادهم يمرحون ويسرحون ويخططون ويفجرون ويقتلون؟!.
ثم إن على وسائل الإعلام واجب عظيم في توجيه الناس وتثقيفهم ونقل الأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة، وفتاوى العلماء الراسخين الربانيين في وجوب تنفيذ هذه الحدود وكل ما هو خير، فوسائل الإعلام بمختلف أنواعها وتنوع تخصصاتها سواء ما يسمى بالإعلام التقليدي المرئي أو المسموع أو المقروء أو ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي (الإعلام الجديد) لها أثر كبير ودور بارز في توجيه الناس وبيان الحقائق لهم وتعريفهم بما يجب عليهم، ولذلك فإن الواجب على كل عالم أو طالب علم أو باحث أو داعية أو إمام أو خطيب أو أستاذ أو مدرس أو غيرهم ممن يكتبون أو يقولون أو يحررون أو يغردون أو يؤدون أي عمل إعلامي عبر هذه الوسائل أن يتقوا الله عز وجل ويعلموا أن مثل هذه الأمور لا تقبل المزايدة والنقاش وليست مكانًا للأخذ والرد والقيل والقال والانتحال والإبطال والتأويل والشبه والشهوة والتشفي، بل لابد من خلالها أن نطرح ما يبين الحق ويجليه، ويبصر الناس ويثبتهم ويرسيهم ويطمئن نفوسهم، ويقوي الصلة بين المجتمع وولاة الأمر وبين الشعب المسلم الواحد، والحذر كل الحذر في استعمالها فيما يغذي الشر ويورث الفساد والاختلاف والشقاق والنزاع، أو يفعِّل هذه الأمور تفعيلاً سلبيًا لتحقيق أهداف ومآرب غربية أو شرقية أو طائفية أو اتجاهية أو حزبية أو انتماء إلى تنظيمات أو جماعات كما هو الحاصل والواقع في بعض وسائل الإعلام التي استحدثت من أجل أن تصب جام غضبها وجميع شرورها وحقدها وكرهها على بلاد التوحيد المملكة العربية السعودية لتفرق الجمع وتخالف بين الصفوف.
أسأل الله العلي القدير أن يحفظ علينا ديننا ووطننا وأمننا وولاة أمرنا وأن يوفق ويسدد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده وسمو ولي ولي العهد ويعزهم ويمكنهم ويرفع من شأنهم، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويحق الحق ويبطل الباطل، وأن يذل ويخذل أعداء دينه وشرعه.