د. فوزية البكر
يتمتع الطلاب السعوديون ربما أكثر من غيرهم بإجازات طويلة، بعضها مقرر من قبل إدارات التعليم كإجازة الصيف التي تمتد هذا العام لأربعة أشهر وإجازة ما بين الفصلين وبعضها اغتصبها الطلاب عنوة من عنق النظام، وأجبروه على أن يركع أمامهم ذليلاً ويقدم لهم واجبات الطاعة..
.. بحيث لا ينقصهم درجة أو شرح أو نجاح دراسي في أيٍّ من شهاداتهم التي فاضت من سيل الدرجات المبالغ فيها، فتمددت جرثومة الإهمال والتسطح لتفرض نظام إجازات إجبارياً على المدارس والمعلمين والأهالي، فقبل كل إجازة يحصل معظم الطلاب عنوة على إجازة بما لا يقل عن أيام إن لم يكن أسبوعاً، وبعد كل إجازة يسري النظام نفسه، وهو الأمر الذي ينطبق على ما قبل الامتحانات، بل لاحظت الكثير من المدارس في أيامنا هذه أنّ نسبة الغياب ترتفع يوم الخميس باعتباره يسبق الإجازة الأسبوعية، بما يؤكد أننا ربما أصبنا كمجتمع بما يجب أن نسميه في علم التربية (بلوثة الإجازات الجماعي).
لماذا أتحدث عن هذه اللوثة التي تنتشر في جسد نظامنا التعليمي انتشار النار في الهشيم؟
لأنّ كافة الدراسات التي تمت لتتبع آثار الغياب والحضور المنتظم للمدرسة، أظهرت أن الحضور المدرسي المنظم يرتبط بشكل مباشر مع النجاح في العمل الأكاديمي، ويحسن التفاعل الاجتماعي مع الكبار والأقران، ويوفر فرصاً مهمة للتواصل بين المعلمين والطلاب. الحضور المنتظم للمدرسة له أيضاً أثر تراكمي في تشكيل سمات تبقى مدى الحياة مع الطالب مثل الإيجابية ، المسؤولية والعزيمة، واحترام قواعد المجتمع والتي تعتبر بالغة الأهمية لتطوير مهارات الاستعداد الوظيفي، والنجاح في الجامعة وفي الحياة لاحقاً. بل إن بعض الدراسات التتبعية قد وجدت أن تساهل الأهالي مثلاً في أخذ أبنائهم لمرحلة الروضة والسماح لهم بالتغيب يجعلهم متأخرين لاحقاً في المرحلة الابتدائية! كيف؟
بناء المفاهيم الأساسية رياضية وعلمية ولغوية (قراءة وكتابة) يتطلب وضع أسس ومفاهيم هي القلب من هذه المهارات، وبغياب الطالب المتكرر لا يتمكن التلميذ من متابعة هذه المفاهيم المتراكمة، فمثلاً لن يتعلم الطالب المبتدأ والخبر أو استخدامات حروف الجر أو غيرها، إلا بعد أن يتعرف على مفاهيم أنواع الجمل، وهكذا في كل المهارات التي تبنى فوق بعضها البعض، ولذا فإني هنا أتحدى أن يتمكن طالب في الصف السادس أو الأول متوسط لدينا، من كتابة خطاب سليم لغوياً وتعبيرياً لشركة ما، يطلب فيها عملاً صيفياً ويعرض فيها إمكاناته، وذلك لأنّ معظم المهارات اللغوية قراءة وكتابة مع المهارات الرياضية والعلمية لدي طلابنا، تعاني من تسطيح كبير بسبب عدم الانتظام في الدراسة، إضافة إلى بيئة تعليمية تعتمد التحفيظ والتلقين وتدرس مواد جامدة عفى عليها الزمن، وكل ذلك تزامن مع هجمة أجهزة القراءة الإلكترونية التي ساهمت في هجرة القراءة المركزة، كما اختفى الاهتمام بالأخطاء الإملائية بفعل التصحيح الآلي.
لا يمكن لوم طرف واحد علي هذه المعضلة الجماعية، حيث تشترك أطراف كثيرة في دعمها حتى ولو بشكل غير مباشر، وعلى رأس ذلك تساهل الأهالي وتحديداً الأمهات اللاتي يخضعن في زمننا هذا لكل طلبات الجيل النفطي المدلل، وما عليكم الا قراءة كتاب لطيف صاغته خبرة أ. د محمد شحاتة الخطيب حول ذلك. وسبب آخر هو استخدام التقنية مثل الواتس اب بين طلاب الفصل الواحد، مما يؤدى الى التقليد وانتشار الظواهر المثبطة للامتياز، إذ حين يتنادى بعض من في المجموعة بالتغيب ويتبادلون النكت المحرضة على ذلك، فيتأثر بقية الطلاب ويعمدون للتقليد، مما يشجع معظم الفصل على الغياب، وهو ما يجعل المعلم بعد ذلك متردداً في الشرح للعدد القليل، وهو ما يؤكد لاحقاً للطالب الملتزم بالحضور، أن لا جدوى من حضوره، وهكذا تستمر دائرة التدني في التعليم بسبب الغياب وتصبح هي المنطق المقبول لا العكس.
ما هي الحلول المقترحة؟
من تلك الحلول التي طرحها العديد من القراء في توتير هو:
- إلغاء إجازة منتصف الفصل الثاني لتضم في إجازة بين الفصلين لتصبح أسبوعين كما كانت وذلك لتقليل غياب الطلاب.
- أن يوضع حد أعلى للغياب بمعدل 15 يوماً وبعده يرسب الطالب.
- أن تستمر المدرسة إدارة ومعلمين في إدارة مهامهم التعليمية من تدريس وأنشطة وواجبات، حتى آخر يوم دراسي حتى لو حضر طالب واحد فقط تقديراً لمن حضر.
- أن تشكل أمهات كل فصل مجموعة واتس أب لمتابعة مسار أبنائهن وكيفية الاتفاق على استراتيجيات مشتركة ضد عصابة الأبناء!
- أن نحسن من بيئة التعلم بحيث تصبح جاذبة للطلاب بدل أن تكون طاردة وليس أسهل من ذلك، عن طريق تكثيف برامج الرياضيات البدنية والنشاطات الفنية والمسرحية الخ. هل هذا مطلب مثالي مقارنة بواقع المدارس التي لا تقدم الا حصة رياضة واحدة في الأسبوع لعدم وجود ملاعب كافية أو إنشاءات للأنشطة في المباني المدرسية؟
هناك حلان لذلك: الاستعانة بما يوجد في بعض الأحياء من منشآت تابعة لقطاعات أخرى مثل الشؤون البلدية أو الجامعات أو الأندية التنافسية والسماح للمدارس باستخدامها.
- السماح لرجال الأعمال وتحت مفهوم المسئولية الاجتماعية بأن يساهموا في بناء بعض هذه المنشآت في المدارس وأن لا تشعر وزارة التعليم بالحرج من منح رجل الأعمال لها، فهذه ليست (صدقة) بل مساهمة مسئولة لحماية جيل بكامله.
الغياب معضلة مفجعة وستؤثر على قيم جيل بكامله، كما ستؤثر في بنائه العلمي والثقافي وعلينا أن نتعامل معها بجدية كافية.
أدعوكم بعد أن تنتهوا من قراءة هذا المقال إلى قراءة مقالي الذي كتبته عام 2019 بعنوان:
كم عدد الأيام التي يذهب فيها أبناؤك للمدرسة؟